بسم الله الرحمن الرحيم
للأسف؛ لا يزالُ مسلسلُ القتلِ والخطفِ والتعذيبِ، والاغتيالِ خارجَ القانون، هو أكثر ما يُخيف الناسَ في ليبيا، فلم يعُد هناكَ أحدٌ آمنٌ وسطَ هذه الفوضَى العارمةِ، وتفريطِ المسؤولينَ في ملاحقةِ المجرمينَ.
لقد وقع في اليومين الماضيينِ اعتداءٌ على رئيسِ بلدية مصراتةَ، أدَّى إلى وفاتهِ، أسألُ اللهَ أن يغفرَ لنا وله، ويرحمَنا ويرحمَه، وأن يعوِّضَ أهلَه وأهلَ مصراتةَ فيهِ خيرًا، وأن يُجنّبهم الفتنَ، ويؤلّفَ بينَ قلوبِهم.
لا يخفى أنّ دوافعَ الجريمة في بلادنا متعددةٌ، ليسَ بالضرورةِ أن يكونَ مرتكبُها من خصومِ الضحية، أو المُعادينَ له، فقد تكون الجريمةُ لمجردِ خلطِ الأوراقِ، وإثارةِ الفوضَى، ولا هدفَ لها سِوى الدفعِ في اتجاهِ عدمِ الاستقرارِ، والمزيدِ مِن مُعاناةِ الناسِ.
فمثلا: الذين اختَطفُوا المهندسينَ الأتراكَ، مِن محطة أوباري لتوليد الكهرباء، هذه جريمةٌ ليس الهدف منها إلّا أنْ تبقى الخدماتُ في ليبيا معطلَةً، وتستمرّ معاناةُ الناسِ، فلن يجرؤَ خبيرٌ أجنبي بعدها أنْ يفكرَ في إصلاحِ عطلٍ داخلَ ليبيا.
المجرمُ ليس له صديقٌ، الجريمةُ تزدهرُ وتترعرعُ ما دامَ المجرمُ يشعرُ أنّه في مأمَنٍ مِن العقابِ الرادعِ، وتطبيقِ القانونِ.
كمْ ناديْنَا بإنشاءِ قضاءٍ مستعجلٍ، للفصلِ في قضايا القتلِ والخطفِ والحرابةِ، ولو أنْ ننتدبَ له هيئاتٍ عدلية مِن خارجِ البلادِ، تحققُ وتحكُم وتنفذُ أحكامَ القصاص في المجرمين.
لو فعلنا ذلك لرأينا في استقرارِ الأمنِ العجبَ العُجاب.
كان هذا قبل ثلاث سنوات تقريبا، ولعل بعض من سمع الكلام ولم يأخذه مأخذ الجِدّ، أو كان يستهزئ به قد طالته يد المجرمين.
إلى متى تبقى الجرائم تُسجّل ضدَّ مجهول؟! مئات إنْ لم تكُن آلاف الجرائمِ، ارتُكبتْ في بنغازي على مدَى الخمس سنواتٍ الماضية، كثيرٌ منها كانَ بمباركة الجهاتِ التنفيذية، جرائمُ استهدَفَت الأبرياء؛ مِن ناشطين وثوار وإعلاميين ودعاةٍ وأئمةٍ وخطباء وأهل قرآن، مِن خِيرةِ أبناء ليبيا، ممّن يُعدُّ فقدُهم خسارةً كبيرةً للوطنِ، وليسَ مِن السهلِ أن نعوضَهم، ليس في بنغازي فقط، بل مثلهم في مُدنٍ أخرى، في مصراتة وطرابلسَ وغيرهما.
جرائم متكررةٌ، الجريمة تلوَ الجريمةِ، كلّها ضدّ مجهول، هناكَ جرائمُ أدلتُها معها، لا تحتاجُ إلى عناءٍ، المجرمُ معترفٌ على نفسهِ، ولكن لا أحدَ مِن الأجهزةِ المعنيةِ يحرّكُ ساكنًا؛ لأنّ هناكَ مَن له مصلحةٌ في التستّر على المجرمِ.
مثلًا: قتلةُ الشيخ نادر العمرانيّ، أليسُوا معروفين؟! أحدُهم أقرَّ على نفسِه، ووضَّحَ مراحلَ الجريمةِ، وكلّ مَن شاركَ فيها، أو علِمَها وتستَّرَ عليها، بكلِّ تفصيلاتِها.
الذينَ ارتكبُوا جريمةَ قتلِ مراد القماطي في الطريقِ الساحليّ، في وَضَح النهارِ، أليسُوا معروفينَ؟!
الذين قتلوا عبد اللطيف الكريك، أحد أبطالِ مصراتة، الداعمين الرئيسين لثوّارِ بنغازي، أليسوا معروفينَ؟!
الذين اختطَفُوا نصر الدين، المعروف بـ(أبو عبد الرحمن) أحد ثوارِ طرابلس، أليسوا معروفينَ؟!
قتلةُ محمد باكير المعروف بـ(النحلة) في مصراتة، أليسوا معروفينَ؟!
المختطِفونَ لمحمود بن رجب وحسين الخضراوي، مِن قادة ثوارِ الزاوية، الذينَ سلمتهم السلطات السعودية إلى حفتر، بعد أن أعطتهم تأشيرةَ العمرة، أليسوا معروفين؟! أليس اختطافهم وتسليمهم عملًا مِن أعمالِ (الإرهاب).
هؤلاء وغيرهم كثيرٌ، ليس لهم مِن ذنبٍ إلَّا ثباتُهم على المبدأ، وتحدّيهم للتدخلِ الأجنبيِّ، فلم يرضوا ببيعِ قضيتِهم، كما فعلَ مَن تولّى اعتقالَهم بالوكالةِ عنِ الأجنبي، سواء الإماراتي أو السعودي أو الغربي، أو غيره.
هل عجزنا طول هذه السنوات الخمس الماضية، مع الميزانيات التي أهدرناها، أنْ نغطيَ المدنَ الليبية بـ (كمرات) مراقبةٍ، مثل ما هو في بلاد أخرى، ربما أقل إمكانات مِن بلادنا.
ثم معَ هذا الإخلال الأمني كله وغيرهِ، ممّا لا يُقدر على عَدّهِ وإحصائه، المسؤولون هذه الأيام في ليبيا، في المجالس بمختلف مسمياتها، الصغيرة والكبيرةِ، مِن الرئاسي إلى البلديةِ، إلّا مَن رحم ربك، نرى شُغلَهم الشاغلَ أنْ يجُوبُوا الأقطارَ شرقًا وغربًا، وكلٌّ وَلَّى ظهرَهُ للشعبِ الذي ولَّاهُ، واللهُ سائلُه عنه، لا يلتفت لمعاناتهِ، ولا يشعرُ بآلامهِ، يُيمّمُ وجهَهُ صَوبَ الأجنبيّ، يستجدِي دعمَه لشخصهِ، أو للجهةِ التي يمثلها، على الجهةِ التي تُنافسه، ترَى الواحدَ لا ينزلُ من طائرةٍ إلَّا ليستقلَّ أُخرَى، لا يَقَرُّ له قرارٌ، وكأنَّ مؤسساتِ بلدِه آمنةٌ منتجةٌ مستقرةٌ غايةَ الاستقرارِ، لا تشكُو مِن شيءٍ، لا من أزمة سيولة ولا صحة ولا تعليم، ولا خدمات متأزمة، ولا فساد مالي وإداري، ولا أخلاقي، ولا تضييعٍ للقيم ... إلخ.
توجَّهَ المسؤولون في بلادنا للخارجِ، يطلبون ودّهُ، في عملٍ أشبه بالدعاية الانتخابيةِ، ففتحوا شهية الأجنبيّ حتى من دول الجوار، على المزيدِ من طمعِ التدخلِ في بلادِنا، وتركوا الداخلَ، الذي هو السندُ الحقيقي لكل غيور على وطنهِ، تركوه للأجنبي، هم يتجولون بالخارجِ، وهو يتجولُ بالداخلِ، هم يستجدونَ الخارجَ، وهو يصدرُ التعليماتِ والأوامرَ للداخل؛ تعليمات تمثل تدخلا سافرا في بلدٍ فرّطَ فيه أهلُه، فأعطَى الأجنبيُّ لنفسه الحقّ بأنْ يكونَ القائمَ بأمرهِ.
لم يستفدْ أهله مِن التجارب السابقة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم.
القانونُ الذي يدعي الأجنبيُّ السعيَ لتنفيذه يقولُ: إنّه لا حقَّ له في مقابلة أحدٍ إلّا بإجراءاتٍ معروفةٍ، تخضعُ لرقابةِ السلطة التنفيذيةِ.
يا أهلنا؛ التساهلُ في التواصل مع أطراف أجنبيةٍ، في ظلّ هذه الفوضى، والتدخل الأجنبي السافرِ؛ تضييعٌ للأمانة وغشٌّ للوطنِ، عواقبُه وخيمةٌ، فإنّ لكلِّ أحدٍ مِن عامةِ الناسِ، فضلًا عن المسؤولين، ولاية في بلدهِ، صغُرت أم كبُرت، فليحذرْ أن يُؤتَى البلدُ مِن قِبلهِ، إذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعلَ ولايةَ الرجل على بيتهِ تُدخلُه الجنةَ إنْ عدلَ، وتدخلُه النارَ إنْ غَشّ، فما بالُك بمَن يغشّ في وطنٍ بأسرِهِ.
لقد جرَى بنا الأجنبيُّ ذاتَ اليمين وذات اليسارِ، ثم فاجأَنا بما لم يكن في الحسبانِ، أليس في هذا عِبرة؟!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
2 ربيع الثاني 1439 هـ
الموافق 20 ديسمبر 2017 م