بسم الله الرحمن الرحيم
لا زالت ليبيا تقدم قوافل الأبطال مِن خِيرة أبنائها، في الشرقِ، وفي الغربِ، وفي الجنوب؛ دفاعًا عن الأرضِ والعرضِ، وعن الدِّين والحق.
معاركُ حاميةُ الوطيس، تدورُ رَحاها بينَ مَن يرمونَ المدنَ بحمم النار العشوائية؛ مِن الطائرات جوًّا، وبالراجماتِ والسلاحِ الثقيلِ داخلَ الأحياءِ السكنيةِ بَرًّا.
المعركةُ الآن في بلادنا - كما في بلادٍ عربيةٍ أخرى قامت فيها على الظلم ثورات - لا تُخفي نفسَها، هي بين قوتين، قوة العودة إلى دولة القمع، والفساد والنهب، وقوة تريد استرداد حقوقها وحكم نفسها.
في بلادنا؛ بينَ ثورةٍ انتفضت غضبةً للهِ، وإطاحةً بالظلمِ والاستبدادِ والقهرِ، وبينَ انقلابِ سبتمبر، الذي جثَم على ليبيا أزيدَ مِن أربعةِ عقود؛ ليعودَ ويسودَ، (كما تكلم بذلك موسى إبراهيم، الناطقُ الرسمي للقذافي، في تصريح له مِن القاهرةِ لأعوانِه داخلَ ليبيا)؛ ليرجع انقلابُ سبتمبر أشرسَ مِن ذي قبل، وأفتَكَ مِن عهودِه الغابرةِ؛ ليبطشَ بالأبرياءِ، والأوفياءِ، المطالبين بالحقوقِ، المنتفضين على الظلمِ، التائقين للخلاصِ والانعتاقِ مِن الاستعباد.
مَا يجرِي الآنَ في بعض المدنِ الشرقيةِ، على يدِ قواتِ حفتر، مِن عودةِ رجالِ الأمنِ الداخلي إلى عملِهم الأول، بالتصفيةِ الجسدية، والاختطاف، وهدمِ البيوت وحرقِها، وتتبعِ رموزِ الثورةِ وملاحقتِهم، واختطافِ العلماء والدعاةِ وتعذيبهم، ثم رميهم على قارعةِ الطريق، جثثًا هامدة، ما هذا الذي يجري منهم - وهم لمْ يُحكِموا بعدُ السيطرةَ، فكيف إذا أحكَموها - إلّا برهانٌ واضحٌ وضوحَ الشمس، على ما يُدبَّر لليبيا وأهلها في الأيام المقبلة، إن تمكنوا.
لقد انتكستِ الثوراتُ العربية، وعادت جميعًا لحكمِ رموزِها السابقين؛ لينتقمَ جلادُوها لأنفسهم، مِن كلِّ مَن تجرَّأَ وخرجَ عليهمْ في الميادينِ؛ مطالبًا ببعضِ حقِّه المسلوب، وبقيت الثورةُ الليبية فريدةً على المحكّ، ولابدَّ لها - في نظرِ الأعداءِ - مِن أن تلتحقَ بالركبِ!
لذا نراها قد اجتمعت عليها الأممُ، وتحزّبت عليها الأحزاب، ورمتْها عن قوسٍ واحدةٍ؛ أصحابُ الملايين بملايينهم، وأصحابُ الكيدِ والمكرِ بمكرِهم، وأصحابُ الطمعِ والتخذيلِ وزرعِ الفتنةِ وشقِّ الصفّ بتخذيلِهم، وأهل الفجورِ الإعلامي والكذبِ البواح بكذبهم وتضليلِهم.
لكنْ أبَشّرُكم يا أهلَ ليبيا .... ما تمسَّكتم بحقِّكم، ودافعتُم عنه، وصبَرتُم عليه، وأخلصتم له، أبشّرُكم بالنصرِ المؤَزَّر وبالتمكينِ والتأييد، فأخلصوا لله الأعمال والنيات، فإنّ وعدَ الله لأهلِ الحقّ الناصرينَ له لا يتخلَّف، ولا تَهُولَنّكم كثرةُ الأعداءِ، وتكتلُ الجمع والكبراء، فسنةُ الله في تحزُّب الظالمين على أهل الحق واحدة: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).
والجوابُ لهم مِن المؤمنين جاء على الفور ولم يتأخرْ: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
لقد فقدنا منذُ قيامِ هذه الثورة المباركة رجالًا نحسَبُهم - ولا نزكِّيهم على الله - صدَقوا ما عاهَدوا اللهَ عليه، وكانَ مِن أواخرِهم، هذا الأسبوع؛ الشيخ المجاهدُ عمرُ المختار المدهوني، فقيدُ مدينةِ صبراتة المجاهدة، والأخُ الثاني لعائلةِ الكيلاني، الشيخ مفتاح الكيلاني، مِن مدينةِ الزاوية، مدينةِ العلمِ والجهادِ، الذي التحقَ بشقيقِه المقدام الشيخ محمد الكيلاني، رحمهم الله جميعًا.
هناكَ بيوتٌ في ليبيا؛ في الزاويةِ وفي مصراتة، وفي غيرها مِن المدنِ المجاهدةِ، ضَربت في التضحيةِ والفداءِ المثلَ، وحازَت في الجهادِ بالمرتبةِ العليا مِن أوسمةِ الشرف، قدَّم البيتُ الواحدُ فيها العددَ مِن الإخوةِ والأبناءِ، الذينَ نحسَبهم عندَ اللهِ شهداءَ، وذاك اختيار من الله لهم واصطفاء، حُرِم منه من فاته هذا الخير، كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتحسرون من فوته فيما حكى القرآن عنهم، فقال: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ).
فالموت في سبيل الله غُنم واصطفاء، يفرح به من يعرف منزلته، ولا يُعد غُرما كما يصوره الغافلون، قال تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
نسألُ اللهَ القديرَ أنْ يتقبلَهم في عليّين، مع النبيّين والصدّيقين، ويُبقِي ذكرَهم في الغابرين، ويُعظمَ أجرَ أهليهم وذويهم، ويعوضَهم فيهم خيرًا، إنّه سميعٌ مجيبٌ.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
19 صفر 1436 هـ
الموافق 11 ديسمبر 2014م