ما حكم الاقتداء بالإمام عبر مكبرات الصوت فقط دون سماع صوت الإمام أو المسمع أو رؤية الإمام أو المأمومين الذين يتبعونه؟
الجواب
صلاة الناس على ظهر المسجد بصلاة الإمام وهو بأسفل المسجد ، تجوز ، إن كان يمكنهم متابعة الإمام ، بأن كانوا يرون الإمام ، أو يرون بعض المصلين معه ، من باب أو كوّة ، أو من جزء من المسجد غير مسقوف ، أو كانوا لا يرونه ، ولكن يسمعون تكبيره ، بحيث يمكنهم متابعته ، ومعرفة انتقالاته ، وسهوه إذا سهى ، ونحو ذلك ، ولا يجوز الاقتداء إذا كانوا لا يرونه ، ولا يرون المصلين معه ، ولا يسمعون تكبيره .
ففي المدونة قال مالك: (لو أن دُورا محجورا عليها ، صلَّى قوم فيها بصلاة الإمام في غير جمعة ، فصلاتهم تامة ، إذا كانت لتلك الدور كُوى ومقاصير يرون منها ما يصنع الناس والإمام ، فيركعون بركوعه ويسجدون بسجوده ، فذلك جائز ، وكذا إذا لم يكن له كُوى ولا مقاصير يرون فيها ما يصنع الناس والإمام ، إلا أنهم يسمعون الإمام ، فيركعون بركوعه)([1]) .
وفي المدونة عن صالح مولى التوأمة ، قال: (صليت مع أبي هريرة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل)([2]) ، وروى ابن وهب عن محمد بن عبد الرحمن: (أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كُنّ يصلين في بيوتهن بصلاة أهل المسجد) ، وبيوتهن كما هو معروف كانت أبوابها شارعة في المسجد([3]) .
والحنفية يشترطون لصحة الاقتداء رؤية حال الإمام، فلو كان بين الإمام ومن يقتدي به حائط طول عريض ليس به ثقب ولا نافذة لا يصح الاقتداء، ففي بدائع الصنائع: (ولو كان بين الصفين حائط، إن كان طويلا وعريضا ليس فيه ثقب، يمنع الاقتداء، وإن كان فيه ثقب لا يمنع مشاهدة حال الإمام، لا يمنع بالإجماع)([4]) .
قال الشافعية: يصح اقتداء مَنْ أَعْلى المسجد بِمَن في أسفله ، إذا علم صلاة الإمام ، ولم يتقدم عليه([5]) .
قال النووي في المجموع: (يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام ، سواء صليا في المسجد ، أو في غيره ... وهذا مجمع عليه ، ويحصل له العلم بذلك ، بسماع الإمام ، أو من خلفه ، أو مشاهدة فعله ، أو فعل من خلفه ...)([6]) .
وقال الحنابلة: (إن كان بين المأموم والإمام حائل يمنع رؤية الإمام ، أو من وراءه، ففيه روايتان (أي مع سماع التكبير): إحداهما أنه لا يصح الائتمام به ، والثانية يصح ، ولا فرق بين أن يكون المأموم في المسجد أو في غيره ... ولابد لمن يشاهد ـ الإمام أو بعض الصفوف ـ أن يسمع التكبير ، ليمكنه الاقتداء ، فإن لم يسمع لم يصح ائتمامه بحال ، لأنه لا يمكنه الاقتداء)([7]) .
وفي الإقناع: (إذا كان الإمام يرى المأموم أو من وراءه وكانا في المسجد صحت ولو لم تتصل الصفوف عرفا، وكذا إن لم ير أحدَهما، إن سمع التكبير، وإلا فلا)([8]) .
ومنه يعلم أن الفقهاء في المذاهب المختلفة ، يشترطون لصحة الاقتداء سماع تكبير الإمام ، أو تكبير المصلين ، أو رؤية بعضهم على الأقل ، ليمكن للمقتدي متابعة الإمام ، فإن لم يوجد شيء من ذلك ، فلا يصح الاقتداء اتفاقا ، لعدم القدرة على متابعة الإمام .
وإذا كان المأتمون في مكان غير المسجد ، كالسفينة ونحوها ، الإمام أسفله ، وهم أعلاه ، ولا يمكنهم سماعه ولا رؤيته ، فلتُصلِّ كل جماعة بإمام ، كما قال مالك رحمه الله تعالى في أهل السفينة ، وإن كانت تمكنهم رؤيته أو سماعه في بعض أحوال الصلاة دون بعض ، فيجوز لهم الاقتداء ، فقد روت عائشة رضي الله عنها ، قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فِي حُجْرَتِهِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ ، فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ أُنَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ...)([9]) .
فإن اقتدى الناس بالإمام ، ثم انقطع اتصالهم ، وهم في غير المسجد ، فلهم أن يستخلفوا ، كما قال ابن عبد الحكم ، ولهم أن يُتِمّوا فرادى ، كما قال غيره ، فإن أرادوا بعد التفرق أن يرجعوا إلى الإمام مرة أخرى ، فلا يجوز لهم ذلك ، كما نبَّه عليه القرافي([10]) .
فإن كانوا في المسجد ، المأتمُّون أعلاه ، والإمام مع بعض المصلين أسفله ، ولا يمكن لأهل العلو كما هو الغالب في مساجد اليوم رؤية المصلين مع الإمام ، ولا سماع تكبيرهم ، فالواجب العمل على فتح كُوة أو باب يُرى منها بعض المصلين ، ليصح الاقتداء ، ولا ينبغي الاكتفاء بمكبر الصوت ، لأن مكبر الصوت لا يقوم مقام سماع تكبير الإمام ، إذ لا يصح الاقتداء بواسطته إذا كان المأموم على مسافة بعيدة من مكان صلاة الإمام اتفاقا ، وإلا لجاز الاقتداء بالصلاة المنقولة عن طريق المذياع ، والقنوات الفضائية ، ولم يقل بذلك أحد فيما أعلم .
ومع التسليم بأن اقتداء أهل المسجد بمكبر الصوت دون سماع الإمام أو رؤيته ، يختلف عن اقتداء من كان بعيدا عن الإمام ، كما في حالة المذياع ، لأن المسجد محل الجماعة ومظنة القرب والمشاهدة ، بخلاف البعد ، فإنه بنفسه مانع من الاقتداء ـ أقول مع التسليم بهذا الفرق ، فإن البناء في الأدوار العليا في مساجدنا اليوم أصبح من الإغلاق والإحكام والانعزال عن الدور السفلي ، بحيث صار كالبِنَائين المنفصلين ، فينبغي العمل لزاما على فتح نافدة ، أو باب يُرى منها المصلون على ما جاء في قول مالك السابق ، فيمن يصلون في مكانين منفصلين .
ولو انقطعت صلة مَن بأعلى المسجد بالإمام ، فالواجب عليهم أن يقطعوا ، ولا يُتِمُّوا فُرادى ، لأنه لا يجوز لأحد أن يصلي في المسجد مع غير الإمام إذا أقيمت الحاضرة ، فإن تمادى المأموم مع الإمام عشوائيا ، فركع قبله وسجد بعده ، ونحو ذلك ، فالواجب أن يعيد الصلاة([11]) .
شوهدت 11859 مرة