بسم الله الرحمن الرحيم
مما يدعو إلى توتر وقلق حقيقي في نفوس الليبيين عدم تحديد المسؤوليات، حتى بعد التحرير وتشكيل الحكومة، لا تُعرف إلى حد الآن الصلاحيات التي أعطيت للحكومة في قدرتها على اتخاذ القرارات من تلك الصلاحيات التي احتفظ بها أعضاء المجلس الوطني الانتقالي لأنفسهم، وما المشروع منها للجان الأمنية العليا والمجلس الوطني الانتقالي، وغير المشروع، وإلى أي مدى تقدر الحكومة على تنفيذ ما صدر منها وقررته إذا قررت. الخوف إذا مضى الأمر على هذه الوتيرة أن نرى انفلاتا أمنيا، وقرارات متضاربة، وهروب متورطين إلى آذانهم في النظام السابق من السجون، أو حتى خارج البلد دون إذن قضائي، وأن نرى حكومة عاجزة، قُلِّصَت صلاحياتُها وكُبِّلت أيديها ثم ندعو إلى محاسبتها وتقويمها، هذا ليس من الإنصاف، على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها وتُصدر بجرأة القرارات في نطاق اختصاصها، ولا تتردد، فالشارع يثق بها ويدعمها بقوة، والتردد سيُضعفها ويُزعزع الثقة فيها، وإذا هي ترددت أو تأخرت عن اتخاذ القرار في الوقت المناسب، فإن الطرف المقابل لها، الذين همهم الإفساد، يعملون بقوة دون تردد ولا تأخر، يتزعمهم تجار الحشيش والخمور الذين وجدوا حماية لهم من بعض ضعاف النفوس ممن حُسبوا على الثوار وبأيديهم السلاح وتُدفع لهم المرتبات المغرية من هؤلاء التجار أو من غيرهم ممن يشجعون على اختلال الأمن، وهكذا تتكون الميليشيات، وهم الذين يداهمون وينتهكون الحرمات ويُضبطون مخمورين دون أن يردعهم أحد، لغياب الدولة. وقد لاحظ الناس التردد من الحكومة في اتخاذ القرارات، وإلا فما معنى أنه مر على تشكيل الحكومة ما يقرب من شهر، والإعلام (الرسمي) لا يزال مُغَيَّبا. الإعلام ـ الذي عادة يسبق وجوده وجود الحكومة ـ لم يتشكل بعد، لا يوجد إلى حد الآن إعلام مستقل يمثل سياسة الدولة، ويتناول قضاياها التي تهم المواطنين كافة بمختلف انتمائتهم وتوجهاتهم بحياد وموضوعية، وينقل بشفافية وأمانة تصريحات المسئولين وتوجيهاتهم ومؤتمراتهم ولقاءاتهم الصحفية، لتصل الحقيقة كاملة إلى الناس. إذا سألت ما السبب في هذا الغياب الإعلامي، لا تجد جوابا مقنعا، فمقرات القنوات الفضائية سالمة لم تُمس بسوء، والأجهزة والمعدات متوفرة، والخبرة والكفايات التي تديرها في السابق وفي اللاحق تعمل، فلم يبق إلا القرار الصادر ممن يملك القرار فينطلق البث، لكن هذا القرار عزيز، ومع عزته وصعوبة صدوره هو إذا صدر عَصِيُّ التنفيذ والتطبيق، فهل هي مراكز قوة تتصارع أم ديمقراطية العالم الثالث في البقاء للأقوى؟! الناس يلومون الخطاب الديني بالتقصير بشدة ويظنون أن حل الوضع المتأزم بأيدي العلماء، وأن عليهم أن يخرجوا في الإعلام لتهدئة الأوضاع وحقن الدماء بين (المشاشية والزنتان) و (الجيش الوطني وكتيبة المطار) وهلم جرا، لكن أين هو الإعلام الذي يتكلم فيه من يريد أن يُهَدِّئَ ويحقن الدماء!! استعراض للقوة وديمقراطية البقاء للأقوى رأيناها بالأمس في مشهدين على الإعلام في وقت واحد، المشهد الأول: المواجهات التي حدثت في طريق المطار بين الجيش الوطني وكتيبة الزنتان في المطار، والعجيب أن كُلًّا من الطرفين صرح في الإعلام أنه يمثل الشرعية، فقائد كتيبة المطار قال: إنه مكلف من المجلس الوطني الانتقالي لحماية المطار، والطرف الآخر تكلم باسم الجيش الوطني الليبي الذي يُفترض أنه أيضا يمثل الشرعية، والغائب الوحيد عن الإعلام هو الحكومة أو المجلس الوطني الانتقالي الذي اكتسب أحد أطراف النزاع شرعية وجوده ـ في المطار ـ منه، لم لا تخرج الحكومة أو المجلس الانتقالي ليبين للناس ـ حسما للأمر ـ مَن صاحب الشرعية؟! أهو الجيش الوطني أم كتيبة المطار؟ ومن منهما الممثل لولي الأمر، ومن الخارج عن الإمام، وحينها يمكن لأهل العلم أن يؤدوا دورهم في حقن الدماء. التغافل من الدولة عن عدم توضيح الأمر لا يخدم سوى ديمقراطية البقاء للأقوى وفرض سياسة الأمر الواقع. أقول للثوار: كيف نسمح لأنفسنا أن نتقاتل ونتنكر لكل التضحيات الجسيمة المؤلمة التي لم تندمل جروحها العميقة بعدُ في نفوس الثكالى واليتامى ومن انتهكت لهن الحرمات؟ أليس هذا عار يسيء إلى كل ثائر يحمل السلاح؟! المشهد الثاني: خروج رئيس المجلس العسكري بالمنطقة الغربية في المقابلة نفسها، يصرح بأنه ليس لديه أي نية لخروج الكتائب المسلحة من مدينة طرابلس، على حين أن رئيس المجلس المحلي لمدينة طرابلس طالب بهذا في الإعلام مرارا، وذلك بسبب التعديات الأمنية التي تزايدت في العاصمة من قبل مجموعات من الثوار على المستشفى المركزي والنيابة ومراكز الشرطة، هذا عدا التعدي على حرمات البيوت والأموال هنا وهناك، مما أدى إلى خروج مظاهرات بالمدينة مؤيدة للمجلس المحلي بطرابلس، فهل شرعية المجلس المحلي كافية؟ أم مرة أخرى الشرعية للأقوى؟! مجلس الشورى بمدينة الزنتان ـ بارك الله فيهم وسدد خطاهم ـ أبلغوني منذ أيام قليلة أن وجود كتائب تنتسب إليهم داخل مدينة طرابلس صار يؤرقهم ويقلقهم بشدة بعد تطور الحالة الأمنية في طرابلس وطلب أهلها والمجلس المحلي بها خروج كل الكتائب منها واختفاء مظاهر السلاح، ووعدني مجلس شورى الزنتان حين لقائي بهم مؤخرا أنهم بصدد الاجتماع بكتائبهم في طرابلس في هذا الخصوص، وأنهم عازمون على إصدار بيان خلال الأيام القليلة يطلبون فيه خروج جميع الكتائب التي تنتسب إليهم من طرابلس، قالوا: وهذه هي رغبة الأغلبية العظمى لأهلهم في الزنتان التي تمثل تسعين بالمئة منهم، وأنهم لا يوافقون بشدة على من يشق عصا الطاعة ممن ينتسب إليهم بالبقاء في طرابلس، بعد أن طلب أهلها خروجهم وخروج غيرهم، وأنهم سيتبرؤون في هذا البيان من أي جماعة تنتسب إليهم لا تلتزم ببيانهم هذا، وهذا هو الظن بأهلنا في الزنتان، فإنهم كانوا ولا يزالون في مستوى المسؤولية، مدركين خطورة ما قد تتدهور إليه الأمور حين يتجه الأطراف إلى التمسك بالمواقع بقوة السلاح وفرض سياسة القوة والأمر الواقع، والليبيون جميعا في انتظار بيانهم هذا، لأنه يدعم الحق بقوة ويدل على دينهم وإنصافهم وتحملهم المسؤولية، كما يعين على استقرار الأمن وينصف أهل الزنتان، فلا يقدر بعده أن يسئ إلى موقفهم أحد، وقد سبق أن وجه رئيس المجلس العسكري بمدينة مصراتة نداءً إلى كل الكتائب المنتسبة إلى مصراتة داخل مدينة طرابلس، وطلب منها الخروج، وأنه حرصا على المصلحة العامة وأمن المدينة هو متبرئ من كل من لا يلبي هذا النداء، فكان ذلك من المجلس العسكري بمصراتة إضافة مسئولة ومشرفة إلى مواقفهم المجيدة.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 17 محرم 1433 هـ الموافق 13 / 12 / 2011 |