البطانة والحاشية / ( الحلقة الثانية )
بسم الله الرحمن الرحيم
لاستكمال الكلام على النوع الأول من بطانة السوء.
أقول … والمبعوث الأممي والفريق الذي معه في بلادنا هم من هذا النوع من البطانة والمستشارين.
عملهم في ليبيا يُصَوِّر تصويرا كاملا ما ذكَرَتْهُ الآيةُ في قوله تعالى: (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)، لا يَفعلون على مدى أعوام طويلة في بلادنا غيرَ هذا، يتظاهرون بالنصح، وكلما نطقوا يقولون إنهم يعملون على الاستقرار!
وما يفعلونه هو عكس ذلك تماما، ليس إلا الخداعُ والعملُ على تعميق الفرقة والانقسام، يُظهرون ما لا يبطنون، ويبيتون ما لا يعلنون، كما قال الله عن المنافقين: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)، فهم كما قال القرآن: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) وإن تظاهروا بغير ذلك في كل مرة.
وأصدق ما يُنْبئُكَ عن دور المبعوثين، ما آل إليه أمر ليبيا بعد مشروع الصخيرات، الذي تولى كِبْره مَنْ سَلّموا زِمام أمرهم إليهم، فاتخذوا من أعدائهم بطانة ومستشارين، بعد أن تظاهروا لهم بالنصح والحرص على إنقاذ البلد، وأوهموهم أنهم صاروا أصدقاء لهم يمازحونهم، حتى رفعوا الكلفة بينهم في خلواتهم وسهراتهم، ولم يلتفتوا إلى نصح إخوانهم وشركائهم في الوطن في ذلك الوقت، وحسبوا أنهم على شيء، فاغتروا بأعدائهم، لكن التبييت هو التبييت! (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)
أخرج لهم المبعوث الأممي (ليون) آخر المطاف، بعد شهر من الخداع، ورقةً من جيبه في المؤتمر الصحفي الذي جمعهم، وأعلن في ذلك المؤتمر الصحفي ما لم يكن لأحد منهم في الحسبان، فنصّب على ليبيا من لم يَجْرِ له ذِكر في المحادثات على الإطلاق، ولا عرفه أحد منهم! ليحكم بعد ذلك ليبيا خمس سنوات كاملة عجاف، كانت أسوأ أيام ليبيا بعد فبراير!
فأُسْقِطَ في أيديهم وبُهِتوا!
وها هي ليبيا، تدفع الثمن باهضاً!
فإذا أسلمتَ أمركَ إلى عدوك فلا تتوقع إلا الغدرَ والمكرَ والخُلفَ، ولذلك ما إن انتهت المهمة التي كُلف بها المبعوث والسفراء في ذلك الوقت، وقضوا وطرهم، حتى تَقَطَّع ما بينهم وبين من كانوا يزعمونهم أصدقاء، ولم يعد واحد منهم يعرف الآخر!
هذه هي الحقيقة … (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) … فاعتبروا يا أولي الأبصار!
هذا هو النوع الأول من البطانة المشار إليه في الآية.
النوع الثاني من المنهي عن اتخاذهم بطانة، قوم من بني جلدتنا من المسلمين، وعملُهم في العداوة للدين والفضيلة والأخلاق، وللإسلام وأهله، عملُ غيرِ المسلمينَ؛
ترى أحدهم مستشارا …
أو وزيرا مؤتمنا على قطاع من قطاعات الدولة الحيوية، كالتعليم أو الصحة أو الخارجية …
أو على القرارات الخطيرة في مؤسسة الحكم، أو أسرار ديوان مجلس الوزراء …
أو أحيانا صاحب نفوذ في الحكم، يحكم وليس بحاكم! وإنما انتزع نفوذَه لقرابةٍ للحاكم، أو صداقةٍ، أو للكتيبة المسلحة التي وراءه …
ترى المستشار من هؤلاء أحيانا لا يصلي، ويكذب، أو يشرب الخمر، ويسب الدين، أو يزور الكلام، ويكتب غيرَ ما طُلب منه، أو يُخفي الأوراق والأوامر والقرارات، أو لصا يستبيح المال العام بالنهب ولا يسمح بإبرام عقد من عقود الدولة إلا ونسبته فيه محفوظة!
لا يبالي بالحرام ولا يخاف الله، بل يرى المجاهرةَ بالمعاصي والعداوةِ للدين مما يُـمَكِّن له ويجعله محل الرضى والقبول، حتى لا يُتهم بالتدين والتشدد، حسب تصنيف المجتمع الدولي هذه الأيام لمن يتولى أمرا في بلاد المسلمين!
فكلما كان المتنفذ أو المرشَّح للمنصب والحكم أكثرَ جرأةً في الإعلان عن عدم المبالاة والتنصل من مظاهر التدين، اطمأنوا إليه ووثقوا فيه، وظن هو أنه مَحلُّ الرضى والتمكينِ والتعززِ والقوةِ!
وهيهات لمن طلب العزة من غير الله أن يعتز!
فإن الله تعالى يقول: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
وهيهات لمن طلب الرضى عليه من أعدائه أن يرضوا عنه، فكلما تنازل وأعطاهم قالوا هل من مزيد!لأن الله تعالى يقول: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
المعيار الذي لا يخطئ في معرفة صلاح البطانة من فسادها، ومن يَصلح لتولي المناصب والعهود، هو الدين، ولا شيء غيرُه، فإن الله تعالى يقول: (لَا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
والمستشار مؤتمن، والأمانة عنوانها خوف الله، وعلاماتها محبة الدين وولايةُ المسلمين ونصرتُهم.
قال الله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
وقال تعالى في وصف من يحبهم الله ويحبونه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
فمن يبغض الدين، ويتعزز بالكافرين، فليس بمؤتمن ولا ناصح، وإن زعم النصح فهو متزلف مداهن.
وقد لفتت الآية الكريمة إلى أنه يجب على مَن تولى أمر الناس أن تكونَ لديه فطنةٌ وفراسة وتوسمٌ يميز بهِ بينَ النصحِ والغشِّ، والخِداعِ والصدق، فلا تصح الغفلةُ لأحد بعدَ هذا البيانِ الواضحِ الذي ذكره القرآن في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)، إذ لا يفعل ذلك إلّا مَن تخلّى عن عقلِه، ووضعَ الأقفال على قلبه، فقد خُتمت الآية بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)!
والآية الكريمة توجيه رفيع الشأن، وقاعدة في إصلاح نظام الحكم، ودوام الملك، واستقرار حياة الناس وأمنهم، قائمة على اختيار البطانة الصالحة، والحاشية المؤتمنة الناصحة، لمن تولى شيئا من أمر الناس، فإنه على اختيار البطانة يتوقف النجاح والفشل، والخسران والفلاح، والرقي والانحدار!
فمن رضي ببطانة السوء، رضي بالفشل والإخفاق، ولا يلومن إلا نفسه!
ورضي بخسارة آخرته ودنياه، لأن البطانة ستُذهب حكمه أو تثبته، وتنجيه في القيامة أو تُهلكه!
قال الله تعالى عن الصحبة بين أهل السوء: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).
ولأجل ألا يبقى عُذر بالجهل يوم القيامة لحاكم من الحكام رَضي ببطانة السوء، فيقول لم أجد ناصحا لي، أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه (مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ؛ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تَعَالَى).
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
26 ربيع الآخر 1445 هـ
الموافق 10-11-2023