بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد فقد أشكلت الصفة التي كان عليها حج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لظاهر التعارض في السنن الواردة في صفة حجه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فرجح المالكية الإفراد وهو عندهم أفضل من القران التمتع، لما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ)، ولما جاء في صحيح مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا)، قالوا: ويترجح ما روته عائشة من إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج على رواية غيرها لاختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم وقربها منه ، واطلاعها على أحواله أكثر من غيرها ، ولأن الخلفاء الراشدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج، فأفرد أبو بكر الحج خلافته سنتين، وأفرد عمر بن الخطاب الحج خلافته عشر سنين، وأفرده عثمان خلافته اثنتي عشرة سنة، وأفرده ابن عمر ثلاثين سنة متوالية، ما تمتع ولا قرن إلا عاما واحدا، وأفردت عائشة كل عام حتى توفيت، وهم لا يتركون الأفضل، قال مالك: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين فتركا الآخر فإن في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به، وهو قول الأوزاعي وعبد العزيز بن أبي سلمة بن الماجشون وأبي ثور وأحد قولي الشافعي. وقد ورد إفراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج من حديث جابر وابن عباس وعائشة وابن عمر والبراء وأنس في الصحيحين وغيرهما كلها تصرح: (فلبينا بالحج)، (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج)، (قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك بالحج)، (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا لا نخلطه بعمرة)، (... فأحرمنا بالحج)، (لسنا نعرف العمرة)، وفي بعض ألفاظها: (كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض)، وفي بعضها الآخر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده)، و(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)، و(لا نذكر إلا الحج)، ورد ابن عمر وعائشةُ حديث أنس أنهم أهلوا بالحج والعمرة، وجعلاه من وهمه وقالا: (كان أنس يدخل على النساء وهن منكشفات لصغر سنه)، ويؤيده ما جاء عن أنس نفسه (خرجنا نصرخ بالحج). وقال أبو حنيفة والثوري القران أفصل وهو صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أنس قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا)، ولحديث ابن عمر عند مسلمأنه قرن الحج إلى العمرة وطاف لهما طوافا واحدا، ثم قال: (هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولحديث ابن عباس عند أبي داود في عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (والرابعة التي قرن مع حجته). وذهب الحنابلة وهو أحد قولي الشافعي إلى أن التمتع أفضل، وهو قول ابن عباس وابن الزبير، واحتجوا بحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع)، وبقول حفصة: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك). وأورد بعض أهل العلم إشكالا على دعوى الإفراد في حجة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لو كان كذلك لكانت عمر النبي صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها ثلاثا لا أربعا والثابت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ؛ عُمْرَةً مِن الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِن الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِن الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ). وأجاب ابن بطال عن هذا بأن العمرة الرابعة إنما تجوز نسبتها إليه؛ لأنه أمر الناس بها، وعُملت بحضرته، لا أنه صلى الله عليه وسلم اعتمرها بنفسه، لذا فإن القاضي عياضا بعد أن ذكر الروايات قال: (فجاء أن الصحيح من هذا ثلاث عمر، ... ولا يعلم للنبي صلى الله عليه وسلم اعتمار إلا ما ذكرناه). ويدل على صحة هذا القول أن عائشة ردت على ابن عمر قوله: (اعْتَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِى رَجَبٍ)، فإن عائشة قالت: (يَرْحَمُ الله أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلا وَهُوَ شَاهِدُهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِى رَجَبٍ قَطُّ)، فهذا معناه إسقاط واحدة من الأربع التي ذكرها ابن عمر رضي الله عنهما. ويدل له حديث عائشة أنها قالت: (مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلا فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَلَقَدْ اعْتَمَرَ ثَلاثَ عُمَرٍ)، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (اعْتَمَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ عُمَرٍ)، وروى مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه (أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ إِلا ثَلاثًا، إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّالٍ، وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ). وروى عبد الرزاق عن عمر ابن ذر عن مجاهد أنه قال: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، كلهن في ذي القعدة)، وعن معمر عن هشام بن عروة قال: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا)، فمن ذكر الثلاث ذكر العمر التي اعتمرها فعلا بنفسه، ومن ذكر الأربع ذكر معهن التي أمر بها أصحابه في حجة الوداع وعملت بحضرته ونسبها بعض الرواة إليه. وأما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعا: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ صَالَحَهُمْ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، ...، وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ، فقال ابن بطال: لم يضبط أنس المسألة ضبطًا جيدًا، وقد أنكر ذلك عليه ابن عمر حين ذُكر له أن أنسًا حدّث أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة وحج، فقال ابن عمر: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج وأهللنا به معه)، ففي رد ابن عمر على ما قاله أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر مع حجته، رد من ابن عمر على نفسه أيضًا في عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن جميع من عدها أربعا عد منها عمرة الحج، وابن عمر يقول أهل النبي صلى الله عليه وسلم بحج ـ أي مفردا ـ وأهللنا معه، فتكون عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا لا أربعا، كذاك قد جاء عن أنس نفسه خلاف قوله الدال على أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مع حجته، وهو حديث مروان الأصفر، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (قدم علي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال صلى الله عليه وسلم: بما أهللت؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لولا أن معي الهدي لأحللت)، فامتناعه صلى الله عليه وسلم من الإحلال لأجل الهدى يدل أنه كان مفردًا للحج ولم يكن قارنا، لأن القارن لا يجوز له الإحلال كان معه هدي أو لم يكن، قال المهلب: وهذا إجماع. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يفسخوا إحرامهم إلى العمرة هو في حق من أحرم منهم بالحج خاصة لا بالحج والعمرة، إذ لا يجوز أن يكون أمرهم بالفسخ إلى العمرة وهم في حرمة عمرة أخرى، لأنهم بذلك يصيرون في حرمة عمرتين وقد أجمع المسلمون على المنع من ذلك، فكيف يجوز أن ينسب إليه صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر مع حجته، إلا على معنى أنه أمر بذلك من لم يكن معه هدى ممن كان أهل بالحج مفردا؟! هذا ما لا ريب فيه ولا شك.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 23 ذو القعدة 1430 هـ الموافق 11 / 11 / 2009 |
توجيه الإشكال الوارد على من قال: أفرد النبي صلى الله عليه الحج ولم يعتمر