بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
بعد تحرير أكبر معقل في ليبيا من العصابات المارقة في وقت قياسي، لو كان المجتمع الدولي منصفا لعلم مَن هم الثوار الحريصون على سلامة ليبيا وتخليصها من أعدائها (الدواعش)؟ ومن هو حفتر؟ ومن يسمونه الجيش الوطني المتاجر بهذا الشعار على مدى أكثر من عامين لتدميرها وتشريد أهلها؟
نتمنى بعد هذا الثَّمنِ الباهض الذي قدمه أبناء ليبيا البررة من دمائهم أنْ لا تتكرّرَ أخطاؤهم عقبَ كلّ انتصار حققوه.
فما أن ينتهوا من المعركة حتى يتفرقوا ولا تبقى لهم قيادة، ويتركُوا أصحابِ الأهواءِ مِن الساسةِ والمتسلقين يقطفونَ ثمارَ نصرِهم، ليجدوا أتفسهم بسبب تخليهم وتفريطهم المتكرر في معركة أخرى أكبر من أختها.
ولابد أن نعترف أن السلطات المتعاقبة على مدى السنين الماضية فشلت في مشروع الثوار، فلم تعطه حقه من العناية بالعمل على ضمهم في مؤسسة أمنية تفرض هيبتهم ويُحمى بها الوطن من الدسائس والمكائد، وتُؤمَّن لهم حياة كريمة بحيث يكون لهم فيها من الغُنم بقدر ما تحملوه من الغُرم، بل أكاد أجزم أن بعض الساسة عمل على إضعافِهم والفرقةِ بينهم، بصور شتى.
فبعض الحكومات تعاملها معهم كان قائما على مبدأ (فرق تسد)، وعلى الفتنة، وإيغار صدور بعضهم على بعض، فكانت الأموالُ والمزايا والبعثات والمهمات تُعطى لهم لشراء الذمم، على غير قاعدة تحقق مصلحة وطنية، ولا ميزان عدل، وأكملت المهمةَ في تفريقهم مخابراتُ دولٍ خارجيةٍ بأموالها، وبتنسيق مع آخر بعثتين للأمم المتحدة بالانفراد بهم في اجتماعات في الداخل والخارج غير قانونية، ويخشى أن يُبدأ العمل عليهم بالطريقة نفسها بعد انتهاء حرب سرت.
وقد ترتب على هذا التشتيت للثوار وتغيبهم أمران:
الأول: تَكَوُّن مراكز قوة من بعض الكتائب التي ملكت المال (وترسانات السلاح) فصار لها نشاط واضح في الخطف والقتل وتصفية الحسابات، ولها سجون تعذيب وإذلال للأبرياء ولأصحاب المواقف الوطنية الأحرار ما لم تعهده سجون القذافي، والعجيب أنه ليس على هذه الكتائب اليوم من مؤسسات الدولة التي تستمد منها شرعيتها أي سلطان، وهذا سببه غياب مؤسسة الثوار الواحدة التي تحفظ الأمن وتحفظ الثورة.
الأمر الثاني: مهما بذل الثوار الأوفياء من تضحيات للوطن في سبيل نصرة الحق سيظلون مُطاردين تلاحقهم تهمة الإرهاب و(الدواعش)، وسيظل الجيش الوطني في نظر المجتمع الدولي وبعثته الأممية ليس إلا قوات حفتر وطائرات أعداء الله المتحالفة معه التي تقصف الثوار، وتقتل الأطفال في بنغازي، وتحاصر مدينة درنة بأكملها؛ صغارها وكبارها، رجالها ونساءها، دون رحمة ولا شفقة، وتلاحق بأذرعها الأمنية التي امتدت إلى طرابلس كل من يعارضه.
هذا كله يتعين معه على ثوار الجبهات الذين لا زالوا أوفياء لدينهم ووطنهم أن يتوحدوا تحت قيادة واحدة، ويلتحقوا بمشروع وطني يقطع على أعدائهم الطريق للتخلص منهم، فإن الله تعالى يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
والمشروع الذي يُمكنُ أَن يكونَ نواةً لجيش منظم يحمي الديارَ، ويُحافظُ على هويةِ هذا البلدِ المسلمِ، هو مشروعُ الحرسِ الوطنيّ، الذي أعلنَ انطلاقَه رئيسُ حكومةِ الإنقاذ، وقد صدرَ به قانونٌ منذ سنة 2014م، فعلى الثوارِ الحريصينَ على حفظ وطنهم من التدخل الأجنبي والاحتلالِ بنوعيهِ المُبَطَّنِ والسافرِ؛ أن يبادروا بالانضمامِ إليهِ، فقد صار ذلك ليس فقط وفاء للعهد الذي قطعوه لمن قُتل من إخوانهم، بل ضرورة لوجودهم وحفظ حياتهم من أيادي الإجرام التي بدأت تتخطفهم الواحد بعد الآخر داخل العاصمة.
وكنت طلبتُ منذُ أزيدَ من عامينِ، في ملتقًى أقامتهُ دارُ الإفتاء للدعاةِ، بحضور السيد رئيسِ المؤتمر الوطني العام، والسيد عمر الحاسي رئيس الحكومةِ في ذلك الوقتِ، قلتُ لهم على الهواءِ: لديّ طلبٌ آملُ أن يُلبّى اليوم قبلَ الغدِ، وهو تفعيلُ مشروعِ الحرسِ الوطنيّ، بأن ينشأ في رئاسةِ الأركانِ ركنٌ يسمى ركنَ الحرسِ الوطنيّ، ينضمّ إليه الثوارُ الصادقونَ المؤمنون بأهداف ثورتهم، ويُدَرَّبوا على الانضباطِ والضبطِ والربطِ، واحترامِ القانونِ وإقامة المؤسساتِ التي توفر الأمن وتوفر الخدمات للناس، ويكونوا نواةً لجيشٍ وطنيٍّ حقيقيّ، لا جيش البعثةِ الأممية المنقلب على الشرعية.
وقد أخذ قانونُ الحرسِ الوطنيّ - الذي صدر من المؤتمر الوطني العام - وقتًا طويلا من الدراسةِ والمراجعة، واستشيرَ فيه كثيرٌ من قادةِ الثوارِ قبل صدوره.
لكن وإن تأخرنَا عامينِ في تفعيلهِ، فلا عذرَ اليومَ لمزيدٍ من التأخير، فالعمل عليه، والمشاركةُ فيه، والانضمام إليه من أعظم الطاعات، لأنه السبيل لرفع الظلم، وتوفيرِ الأمن للناس، واسترداد حقوقهم، وحفظ الوطن من الأطماع الدولية، فإن فُرقتنا وتفريطنا في بناء مؤسسة دفاع حقيقية أطمع فينا الدول الكبرى والصغرى والمرتزقة على حد سواء، فليس بعد أن تكون ثروة ليبيا النفطية في أيدي المرتزِق مَذَلةٌ ولا هوان!
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
9 ربيع الأول 1438 هـ
10 ديسمبر 2016 م