بسم الله الرحمن الرحيم
لا يكادُ يمرُّ يومٌ - منذُ أن بدأتْ بعثةُ الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تحاول إيجادَ توافقٍ بين الليبيين - إلّا ويخرجُ مسؤولٌ عالِ المستوى، بتصريحاتٍ تِلو التصريحاتِ، سواء من دولِ الجوار - الذين نقدّرُ جهودهم وضيافاتهم ونشكرهم عليها - أو مِن الدولِ الكُبرَى في الغربِ وفي الشرقِ المهتمة بالقضية الليبية، وتتزامنُ هذه التصريحات مع المبعوثِ الأمميّ في حِلِّه وترحَالِه، حتّى ليُخيَّلُ للمتابعِ من كثرة ما يسمعُ مِن الترغيب والتحبيبِ في المصالحةِ - أنّ هذه الدول أشدُّ حرصًا على الأمنِ والاستقرارِ في ليبيا مِن أهلِها!
وقد أحسنت بعض النخبِ الظنَّ بمجهودات المبعوثِ الأمميّ، طولَ لقاءاته على مدى أكثر من عام، التي انتهت فيها آخر مسوداته بفضيحة أقرَّ فيها على نفسِه بأنّ مسوداتِه للوفاق كانت تُملَى من بعضِ الشخصياتِ النافذةِ في حكومةِ الإماراتِ، وبعضِ الشخصيات الليبية، وسمّاهَا، وقال إنها كانتْ حريصةً على الفُرقةِ، وإبعادِ بعضِ الأطراف، فهذا شاهدٌ مِن أهلِها، وهو حجة دامغة، انتفى معها أي ريب في أنّ ما كُتب في المسوداتِ هو إملاءاتٌ؛ مدفوعةُ الثمنِ مجحفةٌ، ضارةٌ ضررًا بالِغًا بمستقبلِ ليبيا وأمنها، وفيها المبرر الكافي للنخبِ وكل العقلاء بأن يفتشوا عن السلامِ في غيرِ تلك المسودات.
لكن المفاجأةَ التي لم تكن في الحسبان، ويصعبُ تقبُّلُها - مهما تحلّى المنصف بالإغضاءِ والتصبُّرِ، حتّى لا يزداد الانقسام هوة - أمرانِ:
الأول: أن النخب التي كانت توجِدُ لنفسِها العذرَ في الوثوقِ بالمبعوثِ الأممي، وأنّ في مسوداتِه التوازنَ المقبولَ لكل الأطراف - لا تزالُ للأسف لم تستوعبِ الدسيسة، فاجتمعتْ في تونس داعمةً لتلك المسوداتِ بعد أن اعترفَ صاحبُها بأنّها إملاءاتٌ مدفوعةُ الثمن، ورفضت هذه النخب حوارًا توجهتْ إليه إرادةُ الليبيين مِن مُختلفِ المدنِ، وتنادتْ إليهِ في ملتقى مصراتَة، وغريان، يؤسسون لحوار ليبي دون وِصاية مِن أحدٍ، والتقى على إثره الجسمانِ المتنازعانِ (المؤتمر والبرلمان) وجهًا لوجهٍ، وتمّ توقيعهما على وثيقةِ المبادئِ لحلِّ النزاعِ، فتحقّقَ في أيامٍ قليلةٍ، ما عجزَ عنه المبعوثُ الأممي في أكثر مِن عامٍ!
الأمرُ الثاني: ويَالَلْهَول! كلُّ التصريحاتِ الرفيعةِ، مِن الدولِ الكبرى ودولِ الجوارِ، وُضعت البارحة مصداقيتها على المَحكّ، فقد تدخلت القوى الدولية وحالتْ دونَ اللقاءِ بينَ رئيسِ المؤتمرِ ورئيس البرلمانِ، وهما مَن يعودُ إليهما أساسُ الانقسامِ ، فعندما توجَّهتْ إرادةُ المجلسين إلى الوفاق، لتشكيلِ حكومةِ توافقٍ تُنهي النزاعَ على السلطة وبأقلَّ كُلفة؛ - كانت البارحة الصدْمة! فمُنع اللقاء، خشيةَ أن يكونَ هناك اتفاقٌ في ليبيا دونَ إملاءٍ!
فما الذي يضيرُ المجتمعَ الدوليّ، لو اجتمعَت قيادات طرفيِ النزاعِ الليبي؟!
وما الذي يمنعُ دولَ الجوار الشقيقة، أن تستضيفَ هذا اللقاء وتباركَه، بدل أنْ تستجيبَ للضغوطِ وتتجاهلَه، وتولّي ظهرَها إليه؟!
أليس كانت غاية ما تتمنّاهُ وتبتغيهِ في الصخيراتِ هي والمجتمع الدولي، أن يلتقيَ الطرفان مِن المؤتمرِ والبرلمانِ على وفاقٍ؟
ها هم - يا أشقاءَنا ويا (مجتمع دولي) - قد عزمُوا أن يتوافقُوا- وقد حلّت وفودُهم البارحةَ في مالطا للّقاءِ، فلِمَ كان المنعُ؟ وما الذي جرى؟
هل الجهودُ التي تُبذلُ لمؤتمرِ روما إلّا لتقريبِ الخصومِ؟ ها هي تَقارَبَت ومنعتموها، فلم هذا التناقض؟!
أمّا القائمونَ على الأمرِ بالنّصح؛ فاعلموا أن الابتلاء والتمحيص سنة ماضية (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)، وأن مَن أُوذيَ في اللهِ وصبرَ، وأصابتْه في الحقِّ الغربةُ والجفوةُ فثبتَ، وآلمَتْه اللّأْواءُ والضراءُ، فزادتْه بحقّه إيمانًا - مَن كان كذلك، فقد ازدادَ معدِنُه نُصوعًا، وقدمُه على الطريق رسوخًا، وأجرُه عندَ الله تَضعيفًا، ومنزلتُه في الناسِ رفعةً، وفي ذاكرةِ الأمةِ حُضُورًا.
ولهم في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ (إِن لمْ يكنْ بكَ غضبٌ علَيَّ فلَا أُبالِي).
فلا يفرحِ الشامتونَ بما جرَى للقاءِ مالطَا، فهو لم يخرجْ عن هذا السياقِ النافعِ لأهلِ الحقّ، وعلَى كلِّ مخلصٍ غيورٍ، في ليبيا وخارجَها، أن يقفَ مع الحقِّ بعدَما تبَيّنَ.
والسلاح المتبقي لأهل ليبيا في وجه الدسائس والمكائد، بعد الالتجاء إلى الله، تعالى، هو الخُروج في كلِّ المدنِ والميادينِ، في مظاهراتِ تأييدٍ حاشدةٍ، تؤيدُ أهلَ الحقّ، فالوطن يُبَيَّت به الغدرُ، ولا عُذرَ لمقصرٍ في الخروج إلى الساحات بعدَ اليوم، لتكثير سواد أهل الحق، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
2 ربيع الأول 1437 هـ
الموافق 13 ديسمبر 2015 م