بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام وعلى رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
فإن المصالحة من الصلح والإصلاح، ومعناه الإغضاء والتساهل، وعدم التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين، بترك كل فريق بعضا من حقه، ليجتمعا على كلمة سواء وهو مدعو إليه طبعا، ومرغب فيه شرعا في الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء آية 114)، وقال تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء آية 128)، وقال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين) (الشورى آية 140)، وفي الصحيح أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) (البخاري رقم 2693)، وفي الصحيح: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ) (البخاري رقم 643).
ومن أحكام الصلح المرغب فيه ما يلي:
1 ـ أن من ثبت له من المتخاصمين الحق، من دم أو عرض أو مال، الأفضل له بعد ثبوت حقه وبيانه له أن يتسامح ويتجاوز ويتصدق بالحق على صاحبه، فذلك كفارة له، قال تعالى بعد أن ذكر أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، قال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (المائدة آية 45).
2 ـ التصالح والتسامح المرغب فيه شرعا، إنما يكون مع من صدرت منه الهفوة والخطأ وتاب منه، فهذا هو المَعْنِيّ بالعفو والصلح في قوله تعالى: (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَح) (الشورى آية 40) وقوله: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور) (الشورى آية 43) وقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) (فصلت آية 34) .
أما من كان مشهورا بالبغي مجاهرا بالعدوان والإجرام، فالانتصار والقصاص منه شرعا أولى لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى آية 39)، فقد جاءت الآية في معرض المدح عقب قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ) (الشورى آية 38)، ومحلها من كان مشهورا بالبغي والعدوان.
3 ـ الصلح المرغب فيه شرطه ألا يحل حراما أو يحرم حلالا، قال صلى الله عليه وسلم: (الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا) (الترمذي رقم 1272).
4 ـ لا يجوز إقرار مبدأ في الصلح يترتب عليه ظلم بريء، وذلك مثل إقرار عقوبة جماعية على أهل بلدة بأسرها وقع منها تعد على الحرمات والدماء، لأن البلاد المتهمة بالتعدي لا بد أن يوجد فيها الصغير والمرفوع عنه القلم والكبير العاجز ومن لم يرض بفعل أهلها، ولا قدرة له على منعهم، فإقرار مبدأ عقوبتهم جميعا، كتهجيرهم من ديارهم هو صلح بما حرمه الله تعالى من الظلم، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) (الفرقان آية 19) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ إحالة) (المائدة آية 8) وقال تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (الأنعام 146).
5 ـ لا يجوز لأحد ظُلِمَ أن يتولى القصاص من الظالم بنفسه، بل عليه أن يرفع ذلك إلى القضاء، فالقصاص واسترداد المظالم لا يكون إلا عن طريق الأئمة والحكام، وذلك بإجماع الأمة.
6 ـ الحاكم الذي يرفع إليه الأطراف خصوماتهم لينظر فيها، يندب له أن يأمر الأطراف بالصلح والعفو، ولا يحوجهم إلى تتبع الصغير والكبير من حقوقهم، وذلك بشرطين:
الأول: موافقة جميع الأطراف على مصالحته والرضا بها، فإن رد أحد الأطراف الصلح يجب على من يتولى الصلح استيفاء الحق لأصحابه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حين رد خصمُه الصلحَ على النبي صلى الله عليه وسلم: (اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ) إحالة (البخاري رقم 2509).
الثاني: أن لا يتبين للحاكم الحق بعد أن يكون قد نظر في الدعاوى وسماع البينات، فحينها ـ إن تبين له ـ فلا بد أن يبين لصاحب الحق حقه، ثم بعد ذلك إن أراد أن يترك صاحب الحق حقه فالأمر له، وذلك لما جاء في رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: (فاحرص على الصلح ما لم يتبين لك فصل القضاء).
7 ـ الصلح والتنازل عن الحق كله أو بعضه، لا يكون إلا ممن ملك ذلك الحق، فلا يجوز الصلح أو التنازل عن الحق من غير صاحبه الذي يملكه، سواء كان الذي لا يملكه الدولة أو الأفراد، فقد قال الله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (الإسراء آية 33) ومعنى هذا أنه ليس لأحد أيا كان، الحكومة أو غيرها، أن تعفو عن أحد أجرم في حق الوطن، بقتل أو نهب مال أو غيره، إلا ممن له ولاية على ذلك شرعا.
8 ـ المهجرون عن بلدانهم يجوز عند الخوف من الثأر والانتقام منهم إبقاؤهم بأماكن مؤقتة خارج مناطقهم التي دارت فيها المعارك بينهم وبين جيرانهم، وذلك إلى قيام المحاكم الانتقالية لتنظر في قضاياهم، ليعرف المذنب من البريء، وحينها يقع القصاص من الظالم عن طريق المحاكم، ويرجع الأبرياء إلى ديارهم وذويهم.
9 ـ إلى أن يتم تفعيل المصالحة، إما بإنشاء المحاكم، أو بالعمل على تهدئة النفوس، المطلوب من الدولة أن تؤوي هؤلاء المهجرين في وضع لائق، لأن بقاءهم لاجئون دون إيواء يثير فيهم الإحساس بالمذلة، وإحياء الثارات القبلية القديمة مع جيرانهم، فيلجؤون إلى حمل السلاح .
10 ـ المطلوب من الدولة أن تسرع بإنشاء هذه المحاكم الخاصة بالمصالحة الوطنية، لأن الإسراع بها يخفف من التوتر والاحتقان الحاصل بين الطرفين.
11 ـ المصالحة الوطنية تعد من القضايا الوطنية العامة، أي تعني الوطن كله، وليست قضية خاصة بين البلدين المطلوب المصالحة بينهما، لذا يجب أن تتبناها الدولة, ولا تُترك على أنها قضية خاصة يوكل أمرها إلى الأطراف التي تضررت، لأن الخصم لا يكون حكما.
12 ـ الكتائب الذين قاتلوا الثوار، يؤاخذ كل واحد منهم بما وقع منه من تعد على الدماء والحرمات والأموال، فإن الباغي إذا كان خروجه لعناد وعصبية من غير تأويل، فإنه يضمن بخروجه على الإمام العدل كل ما أتلفه من نفس ومال وجراح وفروج، فيقتص منه في الأطراف والنفوس، ويرد منه المال إن كان قائما، ويغرمه إن فات إلا أن يشاء صاحب الحق أن يترك حقه فله ذلك.
13 ـ المصالحة الوطنية المتعلقة بتولي مناصب الدولة لا تكون بإسناد مناصب قيادية في الإدارات والمؤسسات إلى من تعاونوا مع نظام القذافي من الفئات الآتية:
أ ـ من تلطخت أيديهم بالدماء.
ب ـ من كان معروفا بسرقات الأموال واستغلال النفوذ.
ج ـ من كان معروفا من اللجان الثورية بالنشاط وحضور الملتقيات وقول الزور بالمدح الكاذب والنفاق وملاحقة الأبرياء والوشاية بهم.
وذلك لأن هؤلاء جميعا لا يجوز إسناد المناصب القيادية إليهم، فإن ما رتكبوه يعد جرحة بالغة تسلب عدالتهم، ولا يجوز أن يولى غير العدل، لقول الله تعالى: (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف آية 55).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
26 – ذو القعدة – 1432 هـ
الموافق: 24 ـ أكتوبر – 2011 م