بسم الله الرحمن الرحيم لمصلحة من؟!
المجلس الوطني للجامعات في ليبيا خرج مؤخرا بتوصية تضمنت تعليمات موجهة إلى جميع الجامعات والكليات التي بها أقسام للشريعة والدراسات الإسلامية في طول البلاد وعرضها: أن تتوقف عن قبول طلبة جدد وتكتفي بما لديها من الطلاب حتى يتخرجوا وتنتهي الأقسام، ومن أراد من الطلاب الدراسة في هذا التخصص من الآن فصاعدا فلن تقبله ـ حسب التعليمات ـ سوى جامعة واحدة في الوطن ـ من أقصاه إلى أقصاه على ترامي أطرافه ـ ألا وهي الجامعة الأسمرية بزليتن. هذا القرار أو التوصية يعني بداهة ـ دون كد ذهن ولا عناء فكر ـ الإجهاز على التخصص في هذه الدراسات، وذلك كما علمتنا تجارب متكررة سابقة مع عمليات الفك والتركيب في أقسام الدراسات الإسلامية في جامعاتنا وتبعيتها مرة إلى كلية التربية وأخرى إلى كلية اللغات وثالثة إلى الخدمة الاجتماعية ورابعة إلى الآداب، ثم العودة مرة ثانية إلى الدورة نفسها، وهكذا دواليك، ما حلت الأقسام في تبعيتها إلى كلية إلا وارتحلت، وذلك على مدى عدة عقود من الزمن، فما يُنشأ القسم ويقف على قدميه حتى يُقترح له إلغاء أو ضم أو جمع أو تفريق أو نقل وتحويل ليبدأ مسيرته من جديد إلى حيث بدأ، ليجد نفسه دائما إما خطوة إلى الوراء أو في المكان نفسه، على حد قولهم: (مكانك راوح). كما أوصى المجلس الوطني للجامعات بوقف الدراسات العليا الإسلامية التابعة لهذه الأقسام، وتحويل طلابه الراغبين في مواصلة دراساتهم العليا الشرعية إلى الجامعة المذكورة بزليتن، وهذا يعني إلغاء الدراسات العليا أيضا، وذلك أن المجلس الوطني هو أول من يَعلم أن هذا الضم مُتعذر التنفيذ، فإمكانيات الجامعة الأسمرية لقبول الطلبة محدودة ولا قدرة لها على استقبال هذه الأعداد الهائلة من الطلبة المتحولين إليها من الدراسات العليا ولا الوافدين إليها عند قفل الأقسام للدراسات الجامعية، ولا هو في برامجها ولا مخططها، فتنفيذ هذه التوصية بالضم غير متأت لا من قبل الجامعة ولا من قبل الطلاب. فمن جانب الجامعة الأسمرية يحتاج تنفيذ هذا إلى وضع خطط ورصد ميزانيات وتجهيز مباني وتوفير عدد كبير من الأساتذة والتعاقد معهم، إذ أن أعداد طلاب الدراسات العليا بجامعة الفاتح وحدها يربو أربعة أضعاف على طلاب الدراسات العليا بالجامعة الأسمرية، ناهيك عن الطلاب الجدد للدراسات الجامعية، فأعدادهم بالمئات، إلا على مبدأ: (ما يكفي الواحد يكفي الألف) كما هي القاعدة في بلدان عالم ما وراء الثالث! هذا من جهة الجامعة، أما تعذر التنفيذ من جانب الطلاب فإن العام الدراسي قد بدأ بالفعل وطلبة الدراسات العليا في طرابلس أو بنغازي أو غيرها من المدن كلهم ذوو ارتباطات وظيفية وأسرية مرتبطة بمدنهم وأماكن إقامتهم، والمطلوب منهم حسب هذا القرار أن ينهوا هذه الارتباطات الوظيفية والأسرية أو غيرها، ويرحلوا على الفور إلى زليتن إن رغبوا في الاستمرار في دراستهم، حيث إن هذه التعليمات صدرت من المجلس الوطني للجامعات بعد أن وُضعت الجداول وبدأت الدراسة بالفعل وأخذ الطلبة بعض المحاضرات، وكأن المجلس الوطني الذي يتصرف كذلك ـ وهو أعلى مؤسسة تعليمية تربوية تشرف على أكبر مؤسسات دور العلم ـ لم يسمع بعد في الدنيا بشيء اسمه التخطيط والإعداد، فلا يضيره أن يحل أقساما قائمة في جامعات معتمدة ويضمها إلى أخرى بعد أن بدأت الدراسة في الجامعات المضمومة والجامعة المضموم إليها، وهذا عجيب من مركز وطني يُفترض أنه أول من يعترض على هذا، والمفترض كذلك أن تكون توجهاته وقراراته تحكمها خطط مستقبلية لسنين قادمة معدة ومدروسة ذات أبعاد استراتيجية، إذا خفيت على آحاد الناس فلن تخف عليه! ثم إن أقسام الدراسات الإسلامية، النسبة الكبرى من الملتحقين بها من الإناث، فماذا يعملن؟ وهل على أولياء الأمور في طرابلس وضواحيها وبنغازي وضواحيها نقل بناتهم كل صباح إلى مدينة زليتن وانتظارهن إلى نهاية الدوام، أم ما العمل يا مجلسنا الوطني؟!! والعجيب أن بعض عمداء الكليات من حرصه على إغلاق هذه الأقسام طلب من الأقسام وقف الدراسات العليا فور سماعه الشفوي بصدور هذه التوصية، ولم ينتظر أن يأتيه شيء مكتوب أو حتى (مكلوم) بالهاتف من رؤسائه المباشرين حسب التسلسل القانوني والإداري الذي تقتضيه وظيفته في مثل هذه الأحوال، وهذا على ما تعودناه من أغلب الإداريين الذين بأيديهم مقاليد أمور الناس أنهم إن كان الصادر إليهم من الجهات التي فوقهم فيه خير للبلد أو لآحد من الناس يعتذرون عن عدم تنفيذه ويتلكؤون بحجة أنه لم يأتهم المكتوب، وإن كان الصادر خلاف ذلك ـ كما هو الحال في توصيات المجلس الوطني ـ سارعوا إلى تعطيل مصالح الناس، فعملوا على تنفيذ ما نما إلى علمهم واكتفوا بالسماع، والقليل منهم على خلاف ذلك، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذين الصنفين من الناس، فقال: (إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشر، وإن من الناس مفاتيحَ للشر مغاليقَ للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيحَ الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيحَ الشر على يديه)، (سنن ابن ماجه 1/86). السؤال: هل من مصلحة البلد حقا إصدار توصية مثل هذه تُجهز على أقسام الدراسات الإسلامية؟ هل تسهم مثل هذه التوصيات والقرارات في استقرار البلد ورفاهية أبنائه؟ أين نريد هؤلاء الطلبة الذين حرمناهم من التعليم الشرعي ـ الذي هو حق طبيعي لكل أحد كأي فرع من فروع المعرفة ـ أن يبحثوا عنه؟ فهم لا بد باحثون، رضينا أم كرهنا، لن يثنيهم هذا القرار ولا غيره عن طلبه والبحث عنه، هل يطلبونه في السعودية واليمن والأردن ولبنان؟! ألسنا الذين نُلجئهم بهذه القرارات غير المدروسة إلى ذلك؟ والنتيجة ماذا! على نفسها جنت براقش ...، يوم أن يتغذى الشباب بالأفكار المتطرفة وقد ألجأناهم نحن ليطلبوها من خارج البلد، يومها ندخلهم السجون ونلومهم على التشدد والتطرف، أليس الذي دفعهم إلى التشدد وأغلق أمامهم أبواب التعليم الشرعي المنهجي المعتدل أولى باللوم وأحق؟! دعنا نتصارح ... حتى وإن كان الدافع لمثل هذه التوصيات أمنيا، فأيهما أفضل: أن نوفر لطلابنا في المرحلة الجامعية والعليا دراسات إسلامية تحت سمعنا وبصرنا، أم نتركهم لُقمة سائغة لكل صاحب دعوة ونِحلة؟ كل عاقل يقول: أن يكونوا تحت سمعنا وبصرنا آمن لنا وأصلح لبلدنا، إن كنا نخطط لمصلحة الوطن!. ثم ما الذي يخشاه المجلس الوطني للجامعات من هذه الأقسام وخريجيها؟ هذه أقسام بالإمكانيات المتاحة لها، طول عمرها ضعيفة هزيلة تنزل عن الحد الأدنى المطلوب لأمثالها حتى في أضعف البلاد المجاورة وأفقرها، إنها لا تُخَرِّج دعاة ولا مفكرين ولا قادة مصلحين، إنها تُخَرِّج طلبة علم متواضعين، أحسن أحوالهم أن يصححوا للناس صلاتهم ويؤموهم في مساجدهم ويصلوا على جنائزهم ويدفنوا موتاهم، فهل استكثر المجلس الوطني علينا حتى هذا القدر من التعليم الشرعي ليوصي بما يُجهز عليه، لنستورد في يوم من الأيام شيوخا يقومون عنا بهذه الفرائض التي لا غنى لمجتمع مسلم عنها، كما نستورد القوت. لم هذه الحساسية المفرطة ـ يا من تديرون الجامعات ـ لكل ما هو منسوب إلى (الإسلامية)، هل صار الإسلام سُبة يوم أن كرهته أمريكا وأعلنت عليه الحرب، إن كنت في ريب من هذه الحساسية فعَرِّج على القاعات التي يتلقى فيها طلبة الدراسات العليا في التخصصات الإسلامية محاضراتهم، إنها تعاني إهمالا وهوانا لا نظير له، عند تقسيم القاعات بين الأقسام، النقص ـ إن كان نقص ـ فهو من حصتها، وعلى الأستاذ حينها أن يترقب غياب المحاضرين من الأقسام الأخرى ليحل محله، ليس في المكان ماء حار ولا بارد، ولا دورات مياه، فمن غلبه البول أو غلبته بطنه من طالب أو أستاذ (فليتصرف) كيف شاء وحيثما شاء، قاعات الدراسة في ظروف سيئة وحالة يُرثى لها، كراسي خشنة صلبة مهشمة مبعثرة هنا وهناك، وشبابيك تُدخل السموم والغبار في قيظ الحر الشديد، وأحسن أحوال الأستاذ الذي بلغ من الكبر عتيا ـ والمفترض أنه متقاعد عن العمل قاعد في بيته ـ إذا دخل القاعة أن يجد مقعدا خشبيا يحمله إليه المحسنون من الطلبة من الممرات أو من غرفة أخرى حين يرون عجزه وضعفه، من تلك المقاعد الضيقة المعدة لتلاميذ المدارس الابتدائية (قطعة واحدة كرسي وطاولة) ليبقى حبيسا به مكبلا داخله يتململ ثلاث ساعات متواصلة مدة المحاضرة، فهل ترضى الجامعة ومسؤولوها بمثل هذا المستوى في الدراسات العليا أو الدنيا لكليات أخرى في علوم أخرى، إن كانت ترضى فتلك مصيبة، وإن كانت لا ترضى فالمصيبة أعظم. ويقال لها: لم هذا الهوان في مكان وضده في مكان آخر، والأساتذة والطلبة من الفريقين في جامعة واحدة، أتخشون الناس في مكان لانتمائهم إلى علوم الدنيا ولا تخشونهم في مكان آخر لانتمائهم إلى علوم الشرع، لا أقول أهل الشرع أحق بالتقدير لانتسابهم إلى ما شرفه الله، ولكن أقول سددوا وقاربوا، واعدلوا، وتحملوا مسؤوليتكم على الجانبين، وللفريقين، فإنكم مسئولون، قال صلى الله عليه وسلم: (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (صحيح البخاري حديث رقم 2278).
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 23 شوال 1431 هـ الموافق 2 / 10 / 2010 |