بسم الله الرحمن الرحيم
(القوةُ التي لا تُغلب … العدو الظاهر والمتستر)
العدوُّ الذي أمر الله بإعداد العدة له على نوعين: عدوٌّ ظاهرٌ سافرٌ، يعلنُ العداءَ، وهو في زمنِ نزول قول الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) المشركونَ واليهود.
وعدوٌّ آخرُ غيرُ مُعلَن، وهو أخطرُ على الأوطان مِن الأول، وهم الذين يُظهرون المودةَ والصحبة، ويضمرونَ الغدرَ والخيانةَ، وهؤلاءِ هم المنافقونَ، الذين أخبرَ اللهُ بأنهم في الدركِ الأسفل مِن النار، ولن تجدَ لهم نصيرًا، فعذابُهم أشدُّ مِن عذابِ المجاهرينَ بعدائِهم للدِّين.
وبعدَ أن أمرَ الله بأخذِ العدةِ للعدوِّ عامّة، الظاهر منه والباطن، في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، نبَّهَ بالخصوصِ على العدوِّ المتستِّرِ؛ لخبثه وخطورِة الدورالخسيس الذي يلعبه، فقال: {وآخَرينَ مِن دُونِهمْ لا تعْلَمُونَهُم اللهُ يعلَمُهُم} وفي قوله: (الله يعلمهم) تهديد ووعيد لهذا العدو المتستر، وكان يمثلُه في العصرِ الأوّلِ المنافقونَ والمخَذِّلونَ والمرجِفُون، الذينَ قالَ الله فيهم: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}.
أمّا اليوم، فالعدوّ المتستِّر صارت له جيوشٌ مجيَّشةٌ مِن بني جلدتِنا، متنوعة، جماعات وأفراد وحكام، كلّها مجنّدٌ لخدمةِ العدوِّ الخارجيّ وتختلف أدوارهم.
إن كانوا حكّامًا، فالعدو يستخدمُهم ضدّ مصالحِ الأمة لقاءَ الحفاظِ على عروشِهم، وحمايتهم من شعوبِهم، ومدِّهم بما يلزمُ لذلك مِن السلاحِ والعتادِ، وتبادلِ معلوماتِ التجسّسِ على الشعوبِ وقضايا الأمةِ، وثمنُ هذه الخدمة، التي يقدمُها الأجنبيُّ للحكامِ، متنوع:
منها إتاوات وجزية تُدفع لخزائنِه، ومن لا يقدر منهم على الجزية يرضون منه بالمذلة وبذل وسعه في خدمة الصهاينة.
ومنها - وهو الأوكَسُ والأبخس - استلابُهم حريةِ اتخاذِ القرارِ في بلادهم، فلا يملكون من أمرهم شيئا، لذا تراهم لا يترددون في مساندة قمع الشعوب التي ثارت على الظلم والاستبداد، ومن هذه المساندة في الحالة الليبية بالخصوص، ما قامت به السلطاتُ السعودية من احتجاز قادةٍ من ثوار ليبيا أثناء أدائهم العمرة في رمضان الماضي، وانقطاع أخبارهم، دون أن توجه إليهم أي تهمة، وقد عدّ الليبيون استعمال السلطات السعودية تأشيراتِ العمرة وسيلةً لتصفية حساباتٍ مع ثوار قاموا بثورة في بلادهم من الاستغلال السيء لإدارة المقدسات الدينية.
ومن الثمن الذي يقدمه هؤلاء الحكام أنهم لايترددون في إعلان عدائهم لحركات المقاومةِ للكيانِ الصهيونيّ في فلسطين، ووصفهم بالإرهاب، ولا يترددون في العمل على تهميشِ دورِ الدّين في حياةِ الناسِ، واتهام كل من يدعو إلى العودةِ إلى تطبيق الإسلامِ في السياسة والحكم، أو يدعو إلى العدالة الاجتماعيةِ - التي يطبقها الغرب في بلاده! - بالتطرفِ والإرهابِ.
هذا على مستوى الحكام، وعلى مستوى الأفرادِ والجماعاتِ؛ صار الذين يعملون للغرب أو للشرق، ويستخدمُهم العدوّ ضد شعوبهم - بكل أسف - من الكثرة بمكان، يُشْتَرَونَ بالثمن القليلِ والكثير، بالتجنسِ في بلادِ الغربِ، وبفتحِ الحسابات الأجنبيةِ، التي تودع لهم فيها الأموالُ المنهوبةُ مِن بلدانهمْ، وبالعقود المشبوهة التي مكنهم منها الحكام الموالون لأعداء الوطن، وبالوعودِ بالمناصبِ، وكم وعدوا وأخلفوا، فذهبت الدنيا والدين، وبالتمكينِ لهم في حكمِ بلدانهم نيابةً عن الأجنبيِّ؛ ليكونُوا خدَّامًا له، وكلاءَ عنه، رهنَ إشارتِهِ، فصاروا مطيةً له، هيْمَنَ مِن خلالِها على الأوطانِ؛ لسلب خيراتها، ومصادرة قرارِها وحرياتها.
وتوسع هذا الاستخدام السافل لأبناءِ الوطنِ، واستعمالهم أينما اتجهت، استعملهم في قهر شعوبِهم وإذلالها، بالتهجير والترهيبِ والتخويفِ، وانعدامِ الأمنِ، وغيابِ القانونِ، وشحِّ القوتِ، والشعورِ باليأس وفقدِ الأملِ، وفي تدميرِ أوطانِهم، تحتَ مسمَّى (محاربةِ الإرهاب)، وتحت تغطيةِ ما يُسمّى (بالمجتمعِ الدولي)، وتدخلاتِه مِن خلالِ الأممِ المتحدةِ ومبعوثيها في الشؤونِ الداخليةِ للدولِ التي قامت فيها الثوراتُ؛ لتأديبها، وإعادتِها إلى الاستبدادِ والقهرِ!
هذا الأسلوب في استخدام أبناء الوطنِ وشراءِ الذّمم، وَجَدَهُ الغربُ الوسيلةَ السهلةَ، التي مكنتهُ ممّا يريدُ، دونَ خسائر ولا مخاطر، لا تكلّفهُ سوى تنفيذِ مخططاتِ المكرِ، وزرعِ الفتنِ والعداواتِ، وإشعالِ الحروب؛ ليدمروا بلادَهم بأيديهم، ويقتلَ بعضُهم بعضًا، دونَ أيّ كلفةٍ في صفوفِهِ.
الجبهاتُ التي تعملُ في الخفاءِ في عصرنَا، استعصَت على الحدِّ والعدِّ، استخباراتية وسياسية واقتصادية ومالية وإعلانية.
جبهاتٌ بعضُها نعلمُه، وبعضُها لا نعلَمُه، كما قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}، قد لا نعلم ما يكيدُه العدوُّ في وقتِهِ، ونعلمُه بعد فواتِ أوانِهِ، وإنفاذِ مكرهِ.
الواجب على من انزلقَ وأخطأَ، الرجوعُ والتوبةُ، فإنّ بيعَ الأوطانِ خزيٌ وعارٌ، في الدنيا والآخرة.
أما الأمة فعليها أن تعرف عدوها لتحذره، والتيقظ للمكرِ المعلَن والخفيِّ بإعداد القوة كما أمر الله تعالى.
هناك قوةٌ عظيمة تملكُها الأممُ والشعوبُ الضعيفةُ، سببُ نكبتِها أنّها فرّطتْ فيها، وهي قوة لا تُغلبُ، لا تستطِيعُها الطائراتُ ولا الصواريخُ ولا البارجاتُ، هيَ …
رصُّ الصفوفِ
قوةٌ يرضاهَا اللهُ ويحبُّها:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.
رصُّ الصفوفِ مع صدقِ العزائمِ وإخلاصِ النوايَا … قوةٌ لا تُغلَب
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
14 ذو القعدة 1438 هـ
الموافق 7 أغسطس 2017 م