بسم الله الرحمن الرحيم
العدوان على غزة
واجب الحكام والمحكومين
الإدانة ثابتة على ما يزيد على مليار من المسلمين في أرجاء المعمورة، وهم ينظرون إلى آلة الحرب الصهيونية تمزق أشلاء الفلسطينيين في غزة، ومن قبل ذلك وهم محاصرون، يُجَوَّعون ويسامون سوء العذاب، لا لشيء إلا لأنهم الفئة المؤمنة التي لم تولّ العدوظهرها، وَوَلَّى الباقون، ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
يتفق أهل العلم كافة على أن الجهاد يتعين على كل قادر عليه إذا أغار العدو على بلاد من بلاد المسلمين ونزل بهم، لقول الله تعالى: (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، وقوله تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقوله عز وجل: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗوَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، والعدو يحتل فلسطين، ويُقَتِّل أهلها منذ ستين عاما.
والوجوب متعين ابتداء على أهل البلد المحتل، فإن لم تكن في أهل البلد كفاية، تعين على من يليهم من بلاد الإسلام، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فإن لم تكن فيمن يليهم كفاية، تعين على من يليهم ، وهكذا حتى يتعين على جميع المسلمين قاطبة، إن لم يُقدر على رد الكفار إلا بهم جميعا، وإذا كان في البلد التي نزل بها الكفار كفاية في المقاتلين، ونقص في الأموال والعتاد، تَعَيَّن على جميع المسلمين الجهاد بالمال، وتجهيز المقاتلين بالمال والعتاد، لأن الله تعالى يقول: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ).
فكل مسلم مُتَعَيَّن عليه أن يعمل مقدوره لإضعاف العدو والنيل منه، والنيل ممن يدعمه ويقف وراءه، والدولة الكبرى المستبدة الغاشمة المتمثلة في الإدارة الأمريكية هي الدعم الأول للعدو، مستميتة في الدفاع عنه، رابضة معه في خندق واحد، فهي وهو في العداء للمسلمين سواء، والمسلمون اليوم جميعا مسئولون عن دماء إخوانهم المستباحة التي تُنتهك على مرأى منهم ومسمع، إذ لم يبق عُذر لأحد أن يقول لم أر ولم أسمع، والصور الحية المباشرة للمجزرة الدموية بذبح المسلمين وإبادتهم في غزة تُنقل إليه لحظة فلحظة.
أما حكام العرب والمسلمين الذين يشاهدون من قصورهم وعلى عروشهم الأشلاء الممزقة، مُبْلِسون ولا يحركون ساكنا، فمسؤوليتهم أعظم وحسابهم أشد، فبماذا يجيبون حين يَقْدُمون على ربهم؟ أَتُراهم معتذرين في موقف الحساب: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ)، وكيف ينفعهم هذا وقد جاءهم من الله تعالى البلاغ: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، بل الموقف يامعشر الحكام أشد من هذا وأفظع، فقد أخبر الله تعالى عن الأتباع وهم يتحاجون في النار مع السادة والكبراء بقوله تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) ، فحينها لا ينصر أحد أحدا، ولا تنفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
هذا حال الحكام المتفرجين الذين لا يحركون ساكنا للدماء المؤمنة التي تجري، فكيف بهم وقد جعلوا من أنفسهم حراسا للعدو، وحزام أمن له.
رب قائل يقول: ماذا عسى المسلمون أن يفعلوا حكاما ومحكومين، المحكومون من الشعوب تمنعهم حكوماتهم حتى من الجهاد بالمال للعُدَّة والسلاح، فضلا عن الجهاد بالنفس، وذلك لأن من يُضبط متلبسا به يودع غياهب السجون ، ويساق إلى مصير مجهول ، وقد سنت هذا الدولة الكبرى المهيمنة في معسكرات (جوانتنامو) وصدرته إلى بلاد المسلمين باسم محاربة الإرهاب، هكذا قالت أمريكا، فصدقوها، ولم يصدقوا قول ربهم المتكرر تأكيدا ، آمرا في سور عديدة بالجهاد بالنفس والمال، ولطول ما مُنعت الشعوب من هذا الواجب في الجهاد بالمال، صار نِسيا منسيا عند أكثر الناس، ولم يعد يخطر لهم على بال، ولا تحرك فيهم فاقة المجاهدين ومضة إيمان.
والحكام أيضا في نظر هذا القائل ليس في مقدورهم مواجهة الدولة الصهيونية المدججة بالأسلحة النووية، وهم لا يملكون من السلاح إلا ما يَصلح لحفظ النظام ، فالعجز عذر الجميع!!
أقول: ليس الأمر كذلك، الحكام يملكون الكثير:
أولا ـ يُسألون لماذا هم ينفقون المليارات لشراء السلاح من العدو ، إن لم يستعملوه وقت الحاجة اليه ودماء المسلمين تسفك؟ هل الغاية من الصفقات دعم مصانع العدو وتسويق سلاحه؟! ثم يبقى السلاح في مستودعاته حتى يتحول إلى خردة ، أم وظيفته فقط حماية النظام، أو قتال الإخوة والجيران ؟!
حتى لو كان استعمال هذا السلاح مع العدو غير متأت في الوقت الراهن، لمصلحة راجحة ، وأسباب حقيقية، فهم يملكون أسلحة أخرى فعالة، لو استعملوها لتوقف العدوان، ولراجع المعتدون ومن وراءهم الحساب، فالسياسة كلها مصالح، ولا تقف الدول الكبرى مع العدو إلا لمصالحها معه، ولو استخدم العرب والمسلمون ما يملكون، الاستخدام الصحيح، وملكوا أمر أنفسهم في قراراتهم، لاختلف الحال، وانقلب الميزان، ولسعى لاسترضائهم من يقف وراء العدو بالتأييد والمال.
الحكام يملكون الأموال، ويملكون النفط، ويملكون التأثير في القرار السياسي في المحافل الدولية إن هم تكتلوا وصاروا يدا واحدة، فإذا لم يُستعمل هذا السلاح وغيره الآن، فمتى يُستعمل؟! أضعف الإيمان أن يقول الحكام العرب والمسلمون للغرب: لن تصل إليكم قطرة نفط حتى تتوقفوا عن دعم العدوان، وتكفوا عن الكذب والبهتان، كلمةٌ خالدةٌ قالها من قبل لقريش ثُمامة بن أُثال الصحابي الجليل رضي الله عنه: (وَاللهِ لا يَأْتِيكُم مِن اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ) وهو رجل واحد، ليس حاكما ولا دولة، فما بال الحكام وأصحاب الجيوش والصولجان لا يقولون؟! بل قد وجدنا من الدول والحُكَّام وأصحاب الجيوش من يحاصر بجيوشه مع العدو غزة، ولا يسمحون لها بفك حصار، أليس في ذلك عون مباشر وتواطؤ مع العدو، وغدر وخيانة للمسلمين.
قد يتحججون بالعهود والاتفاقيات الدولية التي تُلزمهم بهذه الحراسة، وبالوقوف هذا الموقف البارد المتفرج، لكن هذه العهود والاتفاقات بعد الغدر صارت ملغاة بحكم القانون والقرآن، قال الله تعالى: ( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، والقانون الدولي يبيح لكل دولة اعتدي عليها الدفاعَ عن نفسها، والدول المتفرجة تربطها مع باقي الدول العربية اتفاقيات دفاع مشترك، فلو اشتركت معها في الدفاع عن نفسها، لكانت في حل حتى في نظر القانون .
ليس كافيا من المسلمين وحكامهم وهم يرون ما حل بأهل غزة من دمار، أن يرسلوا حملات الإغاثة والدواء والكساء، فذلك يستوي فيه في الأزمات والمحنات الصليب الأحمر مع الهلال، والصديق مع العدو، ولا يُعد في باب النصرة للمجاهدين شيئا، كان عليهم أول ما بدأ القصف أن ينبذوا للعدو عهده ومواثيقه، ويقطعوا علاقاتهم به، ويطردوا سفراءه، ويلغوا مبادرات السلام ومفاوضاتهم واتصالاتهم معه، لأنه الذي غدر ونكث العهد، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، هذا في الآية مع العدو الذي يُخاف غدره ، فكيف بمن نكث وغدر بالفعل، مرارا وتكرارا؟
أما الشعوب العربية والإسلامية، المترفة، التي لا ترضى من كماليات الحياة إلا بما كان أمريكي الصنع، فعليها أن ترجع إلى رُشدها، وتشد الأحزمة على البطون، وترضى بمستوى أقل من ذلك، ثمنا للعزة ، ونصرةِ من أوجب الله تعالى عليها نصرته، استجابة لأمر الله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ)، وللوقوف مع قضاياها ضد عدوها، حتى تُجبره على أن يحسب لها حسابا، وهذا السلاحٌ سلاح المقاطعة، كُلُّ مُسلمٍ يملكه، لا يحتاج إلى إذنٍ من حاكم، منصف أو جائر.
إنه ليتعين على الشعوب المسلمة اليوم أن تبدأ عملا جادا لإضعاف عدوها وإن كان قليلا، لكن يجب أن يكون طويلا، وله هدف ولو كان بعيدا، لا يكفي المسلمين رد الفعل الفوري بالسخط والغضب والتظاهرات ، فذاك أمر محمود في حينه ، لأنه وجه من وجوه النصرة التي أمر بها القرآن، لكن لا يعدو أن يكون في علاج قضيتهم مسكنات ، اعتاد العدو على امتصاصه وتجاوزه، لأن عواقبه لديه مأمونة، ينتهي بانتهاء وقته، ولا امتداد له ، ولا هدف يؤثر فيه على مصالحه، فقد جربه آمادا بعيدة، وجربه المسلمون أزمانا طويلة ، والقضية على حالها ، بل في كل عام هي أسوأ من الذي قبله، إذا لا بد من عمل وعلاج طويل المدى، يصحب المسكنات ليتعامل مع الداء.
من هذا العمل المتاح لكل أحد ولا يحتاج إلى إذن أحد أمور ثلاثة، فرطت فيهما الأمة من قبل على مدى ستين سنة من عمر القضية، وها نحن نجني عواقب التفريط.
الأمر الأول: على كل أحد أن يُجنِّد نفسه للمعركة ويفعل مقدوره، فالمعركة مع العدو فاصلة، دخلها بكل قوته ودعم كل حلفائه ، فهي موجهة للأمة كلها ، عليها جميعا أن تهب لصده، لأنه إن سقطت غزة ونحن نتفرج، فستسقط عواصم بعدها ، عدونا واحد، لا يرعى فينا إلا ولا ذمة، فالمعركة شاملة؛ الأغنياء بالمال، والأطباء بالعلاج، والدعاة بالتعبئة وإعلان الحهاد والخبراء العسكريون بالمشورة والتوجيه، والمدنيون بتقديم المقترحات والبدائل التقنية والآلية لما حُرم منه المجاهدون بسبب الحصار الظالم، ومنع ضروريات الحياة من الوقود والكهرباء ووسائل العيش الأخرى والمقاومة، لإسقاط ورقة العدو التي لا يفتأ يستخدمها بقفل المعابر وقطع الإغاثة والوقود، والمهندسون في الاتصالات وغيرها، عليهم أن يجدوا لأنفسهم أيضا دورا في المعركة هم أقدر على تصوره والتنبه إليه من غيرهم، ولا يخفى عليهم ما في استعمال الشبكة الدولية والانترنت من دور مؤثر وفعال لو أحسنوا استخدامه، فلا بد من العمل على اختراق مواقع العدو وإفشاء أسراره وإحباط خططه، فذاك باب من أبواب الجهاد والنضال، فإن الله تعالى سمى مقاومة النبي * للكفار بكل ما أوتي جهادا كبيرا، فقال عز وجل: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا).
الأمر الثاني: الجهاد بالمال، ودعم المسلمين إخوانهم في فلسطين، بكل ما يقدرون عليه من العون والنصرة، ليس الآن فقط والدماء تسيل، بل مدة ما كان هناك في فلسطين أو في أي بلد من بلاد المسلمين عدو جاثم، وراية جهاد ترفع، وليس فقط وقت الأزمات والنكبات؛ دعم إغاثة، وكفالة يتامى، وسد خلة محتاج، بل دعم تجهيز وتسليح وعتاد، لأنه هو الذي يدخل دخولا بينا تحت مسمى الجهاد بالمال، والإنفاق في سبيل الله، الذي وعد الله تعالى عليه المنفقين والمجاهدين الجنة، ورفيع الدرجات، قال الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وقال عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، والملاحظ في عدد من الآيات القرآنية أن الله تعالى يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في الذكر، وذلك لكثرة غفلة الناس عنه، وليشد اهتمامهم به وتوجههم إليه.
فلا عزة للمسلمين، ولا نصرة لهم، إلا بإحياء فريضة الجهاد بالنفس والمال، فإن الله تعالى يقول: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، ويقول النبي * في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، مبينا عواقب الركون إلى الدنيا، والإعراض عن فريضة الجهاد: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ).
أما أن نبقى مكتوفي الأيدي، نتألم ونتفجع كلما رأينا عدونا يستبيح المساجد والديار، والعزل والنساء والأطفال، والذي يقدر من إخواننا في البلد المحتل على القتال لا حيلة له، لأنه لا يملك سلاحا رادعا يحسب له العدو حسابا، ثم نهدأ، ليعود الأمر إلى ما كان في غابر الأعوام، فهو العجز بعينه، والتثاقل إلى الأرض الذي حذرنا منه القرآن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
رب قائل يقول: إن الجهاد بالمال صار متعذرا في ظل هيمنة أمريكا والحكومات التي في طوعها، وتسمي دعم المجاهدين إرهابا، فما الحيلة؟
يُسأل من اعتذر بهذا؟ لو كانت لك حاجة في إيصال مال إلى أي مكان في الدنيا، لتجارة ترضاها، وتخشى كسادها، أو لعزيز مريض ثمن دواء وشفاء، أكنت باحثا عن كل وسيلة لذلك، سمح بها عدوك أو منع؟ أكنت قادرا على تحقيق مرادك، لا تهدأ دونه ولا تمل ولا تكل، إن كان كذلك، فحالك أشبه بمن قال الله تعالى فيهم: ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وهو بعينه ما حذر الله تعالى عباده منه في قوله عز وجل: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
الأمر الثالث: مقاطعة جميع المنتجات اليهودية والأمريكية من السلع والبضائع، لأن أمريكا تُسند الصهاينة في إسرائيل بدعم غير محدود، بالسلاح والعتاد، والمال، والصناعات المتطورة المتقدمة، العسكرية منها والمدنية، وتنحاز إليه انحيازا كاملا سافرا في المحافل الدولية ، لا تخفيه، وتغطي عن جرائمه وتبررها فلا يُدان، حتى يزداد عتوا وفسادا.
فهل يبقى مع هذا العدوان السافر، والتحيز الجائر المعلن إلى جانب العدو، عذرٌ لأحد في أن يتأول للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يصنفها بلدا محاربا معادياً للمسلمين؟ السلع الأمريكية اجتاحت أسواق المسلمين اليوم، بداية من فرشاة الأسنان، إلى الأرز والقمح، والدواء والسيارات، والمعدات الثقيلة، والسلاح والطائرات، بالإضافة إلى التنافس على الحصول على التوكيلات التجارية عن شركاتهم، بفتح الأسواق المجمعة الكبرى، المعروفة بانتمائها الصهيوني ودعمها لإسرائيل، مثل أسواق (ماركس آند سبنسر) و(المول) وغيرها من الأسواق اليهودية والأمريكية، التي لا تكاد تخلو منها عاصمة من عواصم المسلمين، هل يحل لمسلم ديانة وشرعا أن يفعل هذا وهو يرى طائرات الإف 16 تدك المساجد على رؤوس المصلين ، والبيوت على السكان الآمنين، ودور العلم والجامعات فتحيلها بمن فيها إلى حطام وتراب ، هل يحل له ذلك، وهو يرى طائرات الأمريكان المروحية تقصف سيارات الإسعاف وسيارات الإغاثة والتموين ، وتغتال المجاهدين، ويرى من قبل ذلك حصار غزة من أمريكا وإسرائيل ومن يأتمر بأمرهما بأم عينيه، وما يفعلونه بالفلسطينيين من التقتيل والتجويع واستباحة الحرمات، كسرا لشوكة المسلمين.
لذا فإنه يتعين على كل مسلم عندما يمد يده إلى دينار أو درهم، ليشتري سلعة، سيارة أو آلة، أو غذاء أو لباسا، أو أكلا في مطعم، أو شرابا في مقهى، أو مقاما في فندق، أو شيئا آخر من لوازم حياته، صغيرا كان أو كبيرا، أن يسأل نفسه إلى جيب من يذهب هذا المال؟ وليعلم أنه حين يشتري المنتجات الأمريكية أو اليهودية يدفع ثمن تلك الطائرات والمروحيات التي تدك على رؤس المصلين المساجد، وعلى رؤوس التلاميذ المدارس، وأن كل دينار يذهب إلى جيب عدوه، هو ثمن رصاصة يقتل بها أطفال المسلمين في غزة ، وفي العراق، وفي غيرهما من البلاد التي تعاني الدمار من ويلاتهم.
ومن منع نفسه من شراء سلعهم مع إغرائها برخص أو جودة ، واشترى غيرها مع غلائها، احتسابا، بنية إضعاف عدوه، كان مأجور أجرا عظيما، فإن الله تعالى يقول : (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
دور الإعلام والدعاة:
الإعلام العربي والإسلامي ـ للأسف ـ منه ما هو في شغل شاغل عن قضية المسلمين، بالغناء والمسلسلات والخلاعة والطرب، حتى والنار تستعر، فالأمر لا يعنيه، لا هو من الأمة ، ولا الأمة منه.
ومنه من يقوم بجهد كبير مضن في إطلاع الناس على ما يفعله العدو، من ظلم وتدمير وخراب في حينه، ويكشفه للعالم ويفضحه، رضي من رضي، وكره من كره، ويدفع جنوده في ذلك ثمنا باهظا، عَرَّضوا أنفسهم من أجله في كثير من الأحيان للموت، وللسجن والمساءلة من الغزاة وأعوانهم وعملائهم، ولا شك أن من احتسب ذلك منهم لله، وهو مؤمن، وجد جزاءه عند ربه أجرا عظيما، ومُلْكا كبيرا.
لكن هذا كله هو الجزء الأول من رسالة الإعلام، وهو ما يمكن أن نسميه تشخيص الداء، وتوصيفه، وتوصيله لكل من يعنيه، ليهب للنجدة والفداء، والجزء الآخر الأهم في رسالة الإعلام مفقود، أو يكاد، فهو مقصّر فيه تقصيرا كبيرا، مقصر في وصف الدواء، بالتعبئة وتوعية الشعوب المسلمة بواجبها، وما تفعله نحو قضاياها في وجه المحتل، وتبصير الفرد المحتار من عامة المسلمين الذي لا يعرف دوره في المعركة، بالذي يجب أن يقدمه، مما هو في مقدوره ويغفل عنه.
على الإعلام أن يبصر الناس أولا بعدوهم من هو؟ ويسميه باسمه، دون تعميم وتعويم، هناك تعتيم وضبابية على العامة وغض نظر عن العدو الأمريكي الذي يحارب في أكثر من دولة في بلاد المسلمين، ويتبنى مع العدو الصهيوني إلى اليوم وغد احتلال فلسطين ، وتدمَّر أرض فلسطين بسلاحه ودعمه ، الإعلام لا يطالب باتخاذ أي عمل ضده بخصوصه في مقدور الناس عمله، لا يستضيف المختصين والخبراء الذين يقدمون للأمة وجوها عملية ممكنة التطبيق لمقاومته، بعيدا عن قرارات الحكام الميؤوس منها ، الدعاة أنفسهم والعلماء في القنوات الفضائية لا يسمون للعامة هذا العدو باسمه، ويتحاشون ذكره، حتى حين يدعون الله تعالى على عدوهم لا يسمون كل عدو، يسمون عدوا ويتركون آخر شره على المسلمين مستطير، ووباله شديد، ولا يطالبون الناس بعمل شيء نحوه يقدرون عليه ، ينتصرون به للمستضعفين والمظلومين، في العراق وفلسطين، وفي غيرهما من بلاد المسلمين، الدعاة في الإعلام، الناس تسمع إليهم، ولكلامهم وزن لديهم، وهم خليقون بذلك، وجديرون به، فهم يبلغون عن ربهم، ويحملون رسالة نبيهم ، وبين القرآن لهم وظيفتهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وأنزلهم منزلتهم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ ).
عندما بين العلماء والدعاة للناس في وقت من الأوقات أن عليهم مقاطعة السلع الدانمركية وسموها باسمها ودعوا الأمة إلى ذلك ، جنى المسلمون ثمار هذه الدعوة سراعا، امتثل الناس، وفعلت المقاطعة فعلها، وجاءت الدانمرك بوزرائها وسفرائها متوسلة: عفا الله عما سلف، فعفا المسلمون، وسكت الإعلام، وانتهى الدور، لأننا لم نتعود عملا ممنهجا طويل الأمد، يغير من واقعنا المؤلم، ويكون درسا لعدونا لا ينساه ، ذلك تركناه لأعدائنا يخططون به لاحتوائنا، والهيمنة علينا !!
على الإعلام إن كان يريد دورا حقيقيا في المعركة أن يلتفت إلى هذا الجانب، ويكشف للناس عدوهم ويسميه باسمه، ويوجههم إلى ما يجب عليهم فعله، مما يكون له مع الأيام أثر فعال على قضايهم لو استغلوه، أم الإعلام أيضا يخشى السطوة الأمريكية، وسطوة حكامه إن فعل؟ وبذلك تصدق المقولة: الإعلام في العالم يسيطر عليه اليهود.
كان للإعلام دور في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إبان نضال الجزائريين، وقتالهم للفرنسي المحتل، فكان الإعلام المقروء والمسموع يلهب عواطف المسلمين ويؤججها أينما حلوا، وحيثما كانوا، العام كله، ويعبئهم ويدفعهم إلى النصرة والعون، والتبرع للمجاهدين وحمايتهم، وتحويلهم جميعا إلى خط دفاع ثان، آزرٍ للمجاهدين، ومكوّن عمقا في أراضيهم للمناضلين، وأجبر الحكومات بدوره الفعال عن أن تغض نظرها عن ذلك، وقد آتت جهوده نتائج طيبة آنذاك، وأسهم الإعلام إسهاما حقيقيا في المعركة، فلم يحرم شرف الحهاد.
الإعلام اليوم، حتى من اتصف منه بالمهنية والموضوعية، تراه تحت ذريعة هذه الموضوعية يبالغ، فيبرز جوانب سلبية عن المعركة والقضية، شعر أو لم يشعر ، الحرب النفسية أثناء القتال سلاح فتاك ، فلا ينبغي شرح الخطط والتكتيك والتفصيل لكل شيء مما يجري على أرض المعركة، مما قد يكون لصالح العدو ، في هذه التفاصيل أثناء المعارك ما يكون كشفا للعورات يستفيد منه العدو، ويعطى مراسلو الإعلام على أرض المعركة مجانا، معلومات للعدو كان يشتريها بالمال، كما أن الكلام على تفوق العدو وسيطرته على أرض المعركة، وتفصيل الخسائر العسكرية لحاملي السلاح والمقاومين في حينها محبط، لأن الحرب كر وفر، والجميع يعلمون أنها غير متكافئة، فلا تنبغي المبالغة في توصيف ما يُثَبِّط، وليس في ذلك بأس إن كان التفصيل بإظهار جرائم العدو في صفوف المدنيين وبثها للعالم، لأن ذلك دعم للحرب الإعلامية على العدو، فلينتبه الإعلام الذي أخلص نفسه لخدمة المعركة.
من المبالغة في الموضوعية التي ينبغي التنبه إليها، أننا نجد في الإعلام من يبث في وقت واحد رسائل الضحية والجلاد، ويتيح للجلاد الفرصة ليجادل عن الباطل والبهتان، ويجعل الإعلام بذلك من نفسه بوقا لإذاعة وبث دجل الكذاب، ثم يقول المضيف للدجال في نهاية كلامه: شكرا يا فلان من واشنطن، أو من فلسطين المحتلة. الشكر عن ماذا؟! عن اللصوصية والإجرام، وسلق المناضلين والمقاومين بألسنة حداد!! وهذا ناتج دون شك عن غياب المسئولية الدينية، والرقابة الشرعية في مؤسساتنا الإعلامية.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
1 محرم 1430 هـ، الموافق 29 / 12 / 2008