أصحاب الكهف
سلسلة مستلة من كتابه (المنتخب من صحيح التفسير)(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
لما اختلفَ الناس قديما في خبر أصحاب الكهف، وكثر التخرُّصُ فيهم، وكان في خبرهم نفعٌ وعبرةٌ، تولَّى الله تعالى توثيقهُ في القرآن، وأسندَه إلى نفسه، فقال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ).
واقتصر الله في خبرهم على ما فيه العبرةُ والذكرى، فلا عبرةَ في معرفة أسمائهم، أو اسم كلبهم، ولا ما قالوه ولا ما قيل لهم حين أيقظهم الله واطلع الناس عليهم.
والإعراض في قصتهم عن ذكر ما ليس منه فائدة في الاعتبار تعليمٌ، ليتعود الناس أن يتركوا الاشتغال بما لا ينفعهم إلى ما ينفعهم.
ما فيه العبرة وأعلمنا اللهُ به في القصة، خُلاصته في ثلاثة:
- أنهم فتيةٌ شباب، فيهم جلَدٌ وقوةٌ، أي أنّ الشباب هم رمز المقاومة وأمل الأمة في الصمود في وجه الباطل، وهم المُؤَهّلون لتحمل الأعباء.
- وأنهم ليسوا أكثرَ مِن عشرةٍ ولا أقلّ مِن ثلاثة، الذي هو مقدارُ جمعِ القلةِ (فتية)، ومعناه أن مقاومةَ الباطل والوقوفَ في وجه الظلم لا يتوقف على كثرة العدد، ولا تفوُّقِ العُدّة، فالله يؤيد أهلَ الحق ويُثبتهم إن صدقت نياتُهم ولو كانوا قلة (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) ربط الله على قلوبهم لمّا قاموا بدعوتهم، لأنهم أعلنوها وصدعوا بها واضحة، وتبرؤا من كل قول يُخالفها، ووصفوا القولَ بما يُخالفها بقولِ الشَّطَط المُفرط في البُعد عن الحق.
- والثالث، أنّ الفكرَ الذي أُوذوا مِن أجلهِ هو الإيمان، فلم يَرْضوا بالعبودية لأحد إلا لله وحدهُ، لا للأهواءِ والشهوات والأفكار المنحرفةِ، ولا لدُنيا الحكام، ولا استرضاءِ السلطان، ولا لمن يدفع أكثر حسب الطلب، كحالِ مرتزِقَةِ الزمان، هذا هو الذي ذُكر في التعريفِ بهم، (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) وهو كافٍ في الاعتبار بما وقعَ لهم، لمن يعتبر!
فيه تنويه بالشباب بأنهم الأقدرُ على حمل الرايات والوقوفِ في وجهِ الظالمينَ، وأنهم ما دامُوا على الحقِّ لا يتركهم الله لأعدائهم ولن يُخذلوا، وإن كانوا قليلًا.
أصحاب الكهفِ نفرٌ مِن شبابِ صالحِي الأممِ الماضيةِ، تبيَّنَ لهم الحقُّ فانحازُوا إليهِ والتزمُوهُ، ووقفُوا في وجهِ الظالمينَ، لم يُبالُوا بسلطانِهم وبطشهم، ولا بكثرة جيوشهم وحلفائهم، ولا بمرتزقتهم وأعوانهم وجواسيسهم وتخابراتهم.
أرادوا من الحرية ألا يكونُوا عبيدًا إلَّا للهِ، وأرادَ منهم الحاكمُ المُستبدُّ غيرَ ذلكَ، إذ الحكام الظلمةُ لا يكتفون في العادة بأوزار أنفسهم؛ من الموبقات في المجون، والترف، ونهب أموال الدولة، وتسخير كل ما في ممالكهم للحفاظ على عروشهم، بل يُضيفون إليها أوزارا أخرى؛ هي قهرُ الشعوب، والبطشُ بكلِّ مَن لا يسيرُ في ركابِهم ولا يدين بدينهم ويُسبِّحُ بحمدِهم، لا تُقنعهم من أصحاب الفكر في رعاياهم المهادنةُ والسكوتُ عن ظلمهم، بل إما التطبيلُ، وإما التنكيل!
لم يُنازِع الفتيةُ الذين آووا إلى الكهف حُكامَهم في مُلكهم، ولم يُخَطّطوا للانقلاب عليهم، ذنبُهم أن قالوا: ربنا الله!
أرهبوهم ولاحقوهم، والذي ثَبَّتهم هو إيمانُهم (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) لمْ تَضعُفْ عزائمُهم، فكان الله معهم، آواهم وحماهم، وزادَهم هُدًى.
تعلقوا في محنتهم بربهم، قدّموه على كل أحد، وصَدَقُوا التوكل عليه وجعلوه ملاذَهم، وكلُّ من له قضيةٌ مُحتاج مع الأخذ بالأسباب إلى صِدْق التوكل، قالوا (رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، هو دعاءُ كلِّ الخائفينَ المُطارَدينَ، يحتاج إليه كلُّ خائفٍ ألجأه الظلمةُ إلى النزوح والتهجير وترك الديار والفرار من الأوطان، هبْ لنَا مِن لدُنكَ رحمةً؛ مأوًى وأمْنًا ورزقًا، وهَيّئْ لنَا مِن أمرِنا رَشدًا؛ وجِّهنا إلى طريقِ الهدايةِ والسدادِ، واجعلْ عاقبةَ أمرِنا رشادًا.
لما ضاق عليهم الأمر، واشتدّ الضيق، اعتزلوا قومَهم الذين اجتمعوا على الضلال، وقال بعضُهم لبعض (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) ما إن دخلوا الكهفَ حتى أحاطتهم العناية من حيث لم يحتسبوا، أنامَهُم الله نومةً طويلةً، فأراحتهم وزال عنهم الخوف بأسرع مما توقعوا، ولمَّا استيقظوا وجَدُوا أن الله قد سَلّمهم ونجَّاهم، وأهلَكَ مَن كانَ يُطاردُهُم.
هذه هي طريقُ النجاة!
طريقُ النجاة لأهل الحق أن يَثْبُتوا ويَتمسّكوا بحقهم ولا يستسلموا، ولا يُعْطوا الدّنِيّة ويرضوا بالمذلة مهما تألبت عليهم قوى الشر وتحالفت، فإن القوة لله جميعا.
صحيح نجاتُهم كانت آية من آيات الله، كرامةً لهم، لكن آيات الله لا تنقطع ولا تتوقف.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا)
قصتُهم عَجَبٌ وآية، لكنها ليست الغايةَ في عجائب الله، ولا الوحيدةَ في بابها، لا تحسبوها كذلك، فالله عنده ما هو أعجب منها، وما ذُكروا في القرآن إلا ليكونوا مثالا وقدوة، وهذهِ هيَ العبرةُ في قصتِهِمْ.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
5 جمادى الأولى 1440 هـ
الموافق 11 يناير 2019 م