بسم الله الرحمن الرحيم
مما له سببٌ مباشرٌ للاعتصامات وتعطيل الأعمال وارتفاع الأسعار فساد مالي وإداري مُتنوع ومروِّع ومُترعْرِع؛ غسيل أموال، وسرقات، وعقود مصطنعة (مفبركة)، وسطو مسلح، وفساد إداري تحكمه وتحركه العصبية والجهوية والقبلية، وتزوير اعتمادات مستندية، اشتركت فيه مع آكلي الحرام والسُّحت من بعض رجال الأعمال والجمارك - المصارف بصورة كبيرة، على مرأى وممسمع من مصرف ليبيا المركزي، ولم يحرك ساكنا!
يقتصر دوره في كل مرة يضجّ فيها الناس من هول ما يرون، على إصدار نشرات التحذير والتخويف من المسستقبل إذا استمر الحال، وهو مشكور على التحذير والتنبيه، لكن للأسف هو عاجز عن اتخاذ أي قرارات جريئة للإصلاح، والحد من الفساد المتمكن في بعض إداراته، وإدارات المصارف التجارية، التي تحولت إلى مراكز قوة ونفوذ، عامة التجار الشرفاء يعلمون أنه لا تُنال موافقات هذه الإدارات وتوقيعاتها بتقديم المتطلبات واستيفاء المستندات حتى لو بقي المتقدِّم الشهور الطويلة في الانتظار، بل تُنال موافقاتها فقط بمهادنتها والاستسلام إليها والتملق لها بما تحب.
مراكز قوة لا يقدر عليها أحد، حتى المسؤولون من رؤسائها عاجزون على مواجهتها، وهو ما ضيع الأمانة، وضيع حقوق الضعفاء والأمناء من التجار وذوي الحاجات في بلادنا، ضيّعها عجز الثقة، وجَلَدُ الفاجر!
كان على المسؤولين في مصرف ليبيا المركزي والمصارف التجارية، بالتعاون مع الحكومة، وضع حد لهذا الفساد المدمِّر للاقتصاد، قبل أن يشتد عودُه ويشِبَّ على الطوق، بتغييرات جذرية في إدارات الفساد.
أين ورش العمل يُجمَع إليها خبراء المال من الداخل والخارج لوضع حد لتدهور الدينار الليبي الذي فقد أكثر من مائة وخمسين بالمائة من قيمته في وقت قصير؟! أليس هذا من صميم اختصاصات المركزي؟
هل يُترك الدينار الليبي فريسة للسماسرة والمضاربين يتحكمون به في أقوات الناس ويحولونه سلاحا فتّاكا لتقويض الاستقرار؟
هل العلاج لتدهور الدينار الليبي هو الاكتفاء بالتلويح من حين لآخر بالتهديد بالعقوبات الدولية إذا لم نَفْعل ونَفعل ؟!
التهديد والتخويف بالعقوبات يقدر عليه كل أحد - وهو متوفر هذه الأيام بكثرة - أما علاج الواقع في الأوقات الصعبة فلا يقدر عليه إلا الناصحون الحريصون، ومن يخافون مساءلة علام الغيوب (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
المسؤولون في المصارف الآن هم أحد رجلين؛ إما عاجزٌ عن مهامه وعن ضبط الفساد والسيطرة عليه، وإما مُتورط فيه، وكلاهما في التَّوَلي على الرعية غاش، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة).
كم من المليارات على مرأًى ومسمعٍ من الجميع حُوِّلت إلى الخارج، لفتح اعتمادات توريدِ موادَّ استهلاكية، أو طبية، أو دعم سِلَعيٍّ، أو غيره، والنتيجة ؟
مئات الحاويات وصلت فارغة، وأخرى مملوءة بالتراب، وثالثة نُهبت أموالها، ورابعة، وخامسة.. إلى آخره.
مَن يُبرمون عقود المقاولات والإنشاءات، وتُفتح لهم الاعتمادات الكبيرة في جهاز التطوير، هو نفس الجهاز منذ عشرات السنين، الناس هم الناس!
مَن يُوَرِّدون السلع المدعومة لصندوق الموازنة، هم من يُوَرِّدونها أيضا منذ عشرات السنين!
مَن يوردون المستلزمات الطبية بمآت الملايين، هم أنفسهم بشحمهم ولحمهم من يُوردونها منذ عقود، وإن اختلفت الواجهات!
الاعتمادات تُفتح، والمستلزمات الطبية تختفي، وباختفائها يموت المرضى، مرة مرضى الغسيل، ومرة مرضى القلب، ومرة شللُ أطفالٍ في أزمة تطعيمات، والآن جاء الدور على السُكَّري، الذي لايقل المصابون به في ليبيا عن ربع السكان!
اختفى الأنسولين، ليس من مستشفيات الكفرة وغات والجغبوب، فإنهم لتعودهم على الحرمان - عافاهم الله - اكتسبوا مناعة، بل اختفى الأنسولين من مراكز التوزيع في العاصمة!
أما عن الدعم السِّلَعي، فتَسْأل تدعمون مَنْ؟!
لا أظن أن أحدا يقول: هو دعم الليبيين!
الجمعيات الاستهلاكية، منذ زمن طويل لا وجود لها إلا على الخارطة، ولا أحد يُيَمِّمُ وجهه شطرها، وقنطار الدقيق في السوق يشتريه أصحاب المخابز بثمانين دينارا!
في الحقيقة الدعم للدول الأفريقية، والعربية المجاورة، التي للأسف تضِنّ علينا في أزمتنا حتى بالحياد!
هو دعم للمهربين، لجيوب تجار السُّحت والتهريب من أصحاب الملايين!
منذ حكومة الكيب والناس يسمعون أن الدعم السِّلعي لهذه الأسباب وغيرها سيُستبدل ويُعطى بدله نقدٌ يُضاف للمرتبات، ولكن الناصحون (المهربون) يؤخرونه، يُحذرون من ردود الفعل، فليس من مصلحتهم أن يتوقف تهريب النقد الأجنبي والدقيق والنفط!
أكثر من عشرة مليارات تذهب باسم الدعم، والكل يعترف أن الاستفادة منها شبه معدومة، ولكنه العجز عن الإصلاح واتخاذ القرار، لا سلطة تشريعية تحاسب، ولا تنفيذية تنفذ، ولا رقابة مصرفية تمنع التهريب، الوقود صار يُهرب على مستوى دولي، لم تغب عنه حتى روسيا!
هذا بعض ما يدفع إلى الاعتصامات، وإلى تعطيل العمل، وهو قليل من كثير في ظل انشغال أعضاء المؤتمر الوطني العام عن دورهم الرقابي الرئيس، الذي من أجله اختيروا، انشغلوا عنه بالمناكفات والخصومات التي لا تخلو من الطابع الشخصي، في كثير من الأحيان، ولا تسلم من الأهواء والولاء، وتأتي عند ترتيب المسؤوليات في آخر سلم الأولويات، وسط ما تعيشه البلد من المعانات.
وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ)
وإلى لقاء في مقال عن السبب الثالث (دور حرس المنشآت النفطية في الأزمة الليبية)
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
23 محرم 1437 هـ
الموافق 6-11-2015 م